| ]

·  


وصلنا  وصلنا بريزرن ( Prizren ) ليلا. كنا مرهقين طوال الطريق فأخذنا مضاجعنا في النزل، وأخلدنا للنوم، لن أنسى تلك اللحظة، عندما استيقظت على صوت الأذان نديا وهو يجلجل في ذلك الوادي، يردده الجبل من هذه الجهة مرة، ومن هذه الجهة أخرى. إنه يؤذن بحروفنا وكلماتنا ولغتنا التي افتقدناها طوال تلك الأيام. في ذلك المكان الذي لاتكاد تسمع في شوارعه، وبيوته، كلمة عربية واحدة. لحظة رهيبة يقشعر لها بدنك، سيعظم إحساسك بها لو عشت منقطعا عن هذا النداء تماما. فقد مكثنا ثلاثة أيام في بريشتينا، عاصمة كوسوفا، لم نسمع فيها تكبيرا ولا حيعلة، لست تسمع ثم سوى صوت القداس يطن صبيحة يوم الأحد من كنيسة أمهم تريزا، وماعدا ذلك الصوت البئيس فإن كل شيء بدا صامتا. لقد أوقف الأذان بعد الحرب، تخيل، يدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وتمضي الساعات على الحجر والشجر والنهر والبحيرة، كائنات منطفئة، أشبه بظل الشيء وليست هي الشيء الحي نفسه، حتى تلك الورود الملونة، كأنما كانت في ذاك الفلتر الرمادي

قرب النهر الذي ظل يهدر في المنحنى. كان القدر يئز فتشم رائحة الرز الذي بدأ ينضج، وتتسلل معه رائحة القهوة. فيما تنضح شنطة الأغراض برائحة الهيل والكمون، كان صديقنا الشيخ الكوسوفي من بريشتينا يرقبنا صامتا، انحدرنا إلى النهر وتوضأنا، ثم صعدنا ورفعنا الأذان وسط تلك الأجمة، ثم أقمنا الصلاة، ثم كبرنا وصلينا الظهر والعصر ثم قعدنا ووضعنا التمر، وقربنا القهوة، وهو يرقبنا صامتا. أكل تمرة وارتشف القهوة من فنجانه، ثم التفت وقال لترجمانه اسألهم: هل هذا التمر من مزارعكم؟ قلنا: نعم، قال: وهذه قهوتكم؟ قلنا: نعم. ثم قال: وهكذا تصنعون في دياركم ورحالكم وأسفاركم؟ ابتسمنا وقلنا: نعم. أطرق ثم نظر إلينا كمن سيلقي بعصارة مااختلج في صدره وقال: أنتم الملوك. 

ووفي نامانقا ( Namanga ) حين قطعنا تلك المسافة الطويلة باتجاه الجنوب من نيروبي، حتى بلغنا الحدود الكينية التنزانية، دخلنا البلدة مساء، كان الطريق موحلا، ورأينا في ناصية الطريق كنيسة كاثوليكية عاتية، حيثما توغلنا رأينا أكثر من كنيسة. ينقبض قلبك، وتحل عليك كآبة ما وأنت ترى وجوه أولئك القوم الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة!  "وما من إله إلا إله واحد" وفيما انغمست الشمس خلف التلال شيئا فشيئا، ، وهبط الظلام، واجتالت الشياطين، وحل الضيق، سمعنا صوتا عذبا ينساب وسط الظلام. قادما من بين الأشجار، يمر فوق السطوح والقرميد فكأنما كان يمسح على رؤوسها، الله أكبر الله أكبر، صوت رخيم يرفعه رجل من مئذنة تقاوم لتطل برأسها من وراء البيوت والأكواخ والأعشاش، أشهد أن لاإله إلا الله، نغما رخيا بذلك المقام الأفريقي. على طريقة حداء الرعاة، ذاك الذي يعلو ويهبط، أشهد أن محمدا رسول الله، بحروفنا وكلماتنا ولغتنا، ياالله، إنه الإحساس الرهيب. تتصل الأرض بالسماء، ويكبر الشجر والحجر والمدر. انحدرنا جهة الصوت، فتوضأنا وصلينا المغرب والعشاء، وحالما خرجنا كانت المصابيح قد أطفئت، وتوقفت الكهرباء. من وراء ذلك المحيط، وخلف تلك الجبال والغابات والسهول والصحاري الشاسعة المترامية، في تلك البلدة القصية من الجنوب الشرقي للقارة السمراء، عندما كان الظلام دامسا، والأرض مبتلة، وأنت تسمع صرصار الليل، يقطعه خوار ثور، وفيما كنا ننقل حقائبنا من السيارة إلى النزل الذي اكتريناه. برز لنا خلال الظلام رجل أفريقي نحيل الجسد، طويل القامة قليلا، عليه ثوب أبيض، وشماغ أحمر قد ألقى بأطرافه على كتفيه، وله شعيرات ذقن أسود صغير، تماما كهيئة أولئلك الذين تراهم يتأبطون مجلداتهم في أروقة المسجد الحرام. جاء صوته من أقصى الحلق حين سلم علينا بلغة عربية فصيحة. صافحنا، وتحدثنا قليلا، قلنا له: لغتك العربية عميقة. وثقافتك الشرعية ثرية. قال: نعم. إنني يوميا أتابع في المذياع برنامج " نور على الدرب " وأحفظ منه فتاوى الشيخ ابن باز وابن عثيمين "رحمهما الله" اي والله. 


وفي كاندي ( Kandy ) في الشرق من كولومبو عاصمة سيريلانكا، هناك حيث تمور الضلالات والديانات والعقائد، وتموج موج الخضم المتلاطم، ترى أولئك الناس الذين خلقهم الله، وأطعمهم وسقاهم، وكساهم وآواهم، ورزقهم من الطيبات، يمضون سحابة يومهم في تقديس الحجر والشجر والبهائم والصلبان. كنت تمر إلى جوار كنيسة مليئة بالصلبان، ثم تمر إلى جوار معبد هندوسي، ثم تمر إلى جوار صنم بوذي، وترى الأصنام معروضة تباع على الرصيف، "واتخذوا من دونه آلهة لايخلقون شيئا وهم يُخلقون، ولايملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولايملكون موتا ولا حياة ولا نشورا" ثم وبعد ذلك البؤس الكالح كله، تلوح لك من بين الأشجار مئذنة مسجد قد شمخت بعنقها إلى السماء، مثل سبابة تشهد بالتوحيد لله رب العالمين، كأنما هي صمام الأمان للأرض التي هي فيها. في الفندق، حين كان الليل هادئا وهو ينحدر نحو الهزيع الأخير، صحوتُ على أصوات همهمة جماعية مختلطة. طقوس بوذية تجيء وتروح، ترتفع وتنخفض، تأتي من هنا مرة ومن هنا مرة، يبدؤون يومهم بالشرك القميء، ويبارزون الله به بكل صفاقة، تحت سمعه وبصره، حتى إذا امتلأ الأفق بالضلال، وزاغت العقول، وقهقه الشيطان، واكفهر الحجر والشجر والنهر والحيوانات. في لحظة انقباض رهيبة، تسمع صياح ديك. ثم تسمع صوتا عذبا يرتفع من بعيد، ينساب خلال نخيل جوز الهند الذي خشع له، يأتي به نسيم عليل، يرفعه سيريلانكي بصوته النحيل، بذلك اللحن الذي يتمايل مثل سنبلة يداعبها الهواء، مرقق اللام والراء، تماما، كما تسمعه في مسجد صغير وسط استراحات نائية، بحروفنا وكلماتنا ولغتنا العربية. بلكنة مكسرة لكنها لذيذة، الله أكبر الله أكبر، يقشعر بدنك وأنت تسمعه يهوي بالتوحيد على ذلك الظلم البشري البشع، أشهد أن لا إله إلا الله، ويضع المخلوقات في مكانها الطبيعي، أشهد أن محمدا رسول الله. لم يكن إيذانا بدخول وقت الصلاة فحسب، بل إنه كان يعيد ترتيب تلك الفوضى العارمة. 


أما في كوبليك ( Koplik ) فقد كان الأمر مختلفا. " الآن سيدخل وقت صلاة الظهر، ولا أظن أننا سنجد مسجدا طوال طريقنا عبر مونتينيغرو، وأخشى أن لانصل البوسنة إلا بعد دخول الليل " قالها ترجماننا صديقنا الصربي، ونحن على الحدود مابين ألبانيا والجبل الأسود، في تلك المدينة المتاخمة. نعم الرأي. لم نقطع مسافة طويلة حتى ظهرت لنا منارة مسجد، وفيما كنا نتوضأ أقبل يتهادى من جادة بين الحقول شيخ ألباني معقوف الظهر، توزعت في ذقنه شعرات بيضاء كندف الثلج، يعتمر كوفية بهية، تماما، كأولئك الذين تراهم متشابهين رفقة عجائزهم وهم يطوفون بالكعبة في حملة حج أو عمرة. ابتسم لنا وصافحنا، قلنا له: هل سترفع الأذان؟ قال: نعم، قلنا: رائع، نحب أن نسمع ذلك، قال: من أين أنتم؟ قلنا: من السعودية، انفرج وجهه عن ابتسامة لطيفة، وأعشب بالفرح، وقال مستدركا: أنتم العرب. نريد أن نسمع الأذان منكم أنتم، التقت نظراتنا في حرج. أجبناه: حبا وكرامة، مالم يكن في ذلك بأس، قال وهو يضحك منبسطا: وأين سيكون البأس وقد رفع الأذان رجل من أرض العرب، وبلغة عربية، ابتسمنا في خجل، قلت له: سنرفع الأذان بطريقة أداء الحرم المكي، رفع يديه بتفاعل مسرور، وعلق بكلمات ألبانية كما لو أنه يقول: نور على نور. دلفنا إلى الداخل، وفتح جهاز المايكروفون، وجلس في المحراب منصتا، وجلس معه بعض أشياخ ألبانيين عليهم كوفياتهم، وكان هذا الأذان الذي اقتنصه صديقنا الصربي من خارج المسجد:





وهناك في أقصى الشرق، في طلاس، تحت سلسلة من الجبال الممتدة، وتحديدا وراء نصب لينين وستالين، حين كنا نشارك الأشياخ والأهالي روحانية إفطارهم الجماعي، كان أذان المغرب موغلا في القداسة والمهابة، في حديث كنت قد دونته مفصلا. 

لقد طوفت في بلاد كثيرة، حتى لكأنني موكل بفضاء الله أذرعه، مثلما يقول ابن زريق، وتطوافي ذاك منحني كثيرا من ذلك الشعور الذي لايمكن أن تحس به ماكثا في حيك وبين عشيرتك. إن المسجد في تلك الديار البعيدة ليس مسجدا فحسب، إنه قلب ينبض بالحياة، يتجمع فيه المسلمون، ويتصافحون. يتنفسون الأخوة، ويرفعون الأذان، ويستمعون القرآن، ولقد تجد امرأة تقم بعض شعرة في الردهات، وترى الصغار يزيلون الغبار عن المصاحف، رأيت ذلك المنظر البهي بعيني، وعشت إحساسه في بقاع شتى، في مسجد الملك فهد رحمه الله في سراييفو، حيث يضمك فكأنما أخذك أبوك تحت عباءته. ونعمت به ونحن نصلي الجمعة في مسجد المركز الثقافي الإسلامي السعودي في مدريد، وقبلها في مسجد الملحق الثقافي السعودي في نيروبي. إن الصلاة مع أخلاط المسلمين، في تلك المساجد النابضة بالروحانية، لتأخذ بمجامع قلبك، وتمسح عليه بالحنو والعطف. وإذا كنت في ديار قوم يرفعون الصلبان، ويأكلون الخنازير، ولايذكرون اسم الله على مارزقهم من بهيمة الأنعام، فإن الأمر في تلك المساجد يصبح أكثر دفئا وإن صغرت، وقد اضطرتنا الظروف مرة، وانقطعنا لحادث ما، وطال بنا الطريق خارجين من انترلاكن في سويسرا نحو كابرون في النمسا. مالت الشمس، وكنا كلما انعطفنا إلى بلدة لم نجد فيها أي منارة بين تلك الكنائس، ولئن كان في شريعتنا فسحة، وكانت الأرض كلها مسجدا وطهورا، وكان الفضل عظيما للأذان والصلاة في الفلاة، إلا أن تلك البلدان المعقدة لاتنظر للأمر بهذه الصورة، ولم نشأ أن نعمل عملا مخالفا للقانون. طال بنا الأمر، وضاقت صدورنا، فقد اعتدنا في تلك الديار أن نصلي الظهر والعصر جمع تقديم قبل مغادرة الفندق، ولكن الأمر اختلف هذه المرة، وبينما كنا في طريق ريفي، نخرج من بلدة وندخل أخرى، ووسط هذا الركام من الغبش، لمحنا لافتة صغيرة مكتوبة بالخط العربي، على مرمى حجر من الطريق. لم نتبين بادئ الأمر مافيها، توقفنا، وعدنا أدراجنا ونحن نقول: لعله مطعم عربي فنتوضأ عنده ونصلي، وحينما اقتربنا وإذا مكتوب: هنا مسجد. لاإله إلا الله. بقعة من الضوء وسط ذلك الظلام، أو كأنما هو حبل ممدود من السماء إلى الأرض. كانت غرفة صغيرة في مركز إسلامي ناشئ، لم يكن ثم أحد. توضأنا ودلفنا، تهجم على أنفك رائحة الصندل والمسك، على الأرض سجاداتنا التي نعرفها، تتوسطها الكعبة المشرفة والبيت الحرام وقد سحل موضع السجود فيها، ومن فوقها مسبحة ملقاة بحباتها الخشبية، تتدلى في أخرها خيوط خضراء، وكوفية مزركشة أو كوفيتان على الرف، وعباءة للإمام على المشجب. ترفع رأسك لترى فوق ذلك كله آية بخط الثلث تعتلي المحراب، بحروفنا وكلماتنا ولغتنا العربية، تحكي قصة تحنث مريم في المحراب، وأنه " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " ياالله. والله لكأنك لم تقرأ هذا الآية من قبل. لكأنها نزلت الآن. إنها لتنكشف لك جلية في هذا الموضع، مع هذه الزمرة المؤمنة، وسط قوم يزاعمونهم بحب عيسى وأمه، فكأنهم يقولون لهم: مريم لنا، نحن أولى بها وبولدها منكم، نحن نضعهم حيث يريدون هم بأمر ربهم، وأنتم تضعونهم حيث تريدون أنتم فكأنكم تقولون لعيسى: اذهب أنت وربك فشرعا، إنا هاهنا مشرعون! أما نحن فنقول فيهم كما قالوا هم عن أنفسهم " وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. قال سبحانك مايكون لي أن أقول ماليس لي بحق " سقى الله تلك البقعة الطيبة المباركة، ورحم الله تلك الجباه المتطهرة الموحدة، في ذلك الغور الصليبي السحيق. ( وإذ قال الله ياعيسى بن مريم أأنت قلت للناس .. )

إنني ماسمعت الأذان في أرض من تلك الفجاج بلغة عربية فصيحة، ولاصليت في مسجد ثَمّ فقرأ الإمام القرآن بلغة عربية فصيحة، إلا خشعت نفسي، وتذكرت نعمة الله على العرب، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آياته بلسان عربي مبين، وهو بعد للناس كافة، فأعزهم الله به، فكل المآذن، في كل فج ** تحيعل في لغة واحدة. لقد جمع الله للعرب أمهات المكارم، فالكعبة في أرضهم، وأنزل الله القرآن بلغتهم، وبُعث أشرف الأنبياء صلى الله عليه وسلم منهم وفيهم، ثم دفن بين ظهرانيهم، فجمعوا الشرف كله: القرآن، والكعبة، والنبي، ومامن مسجد، في أي صقع من هذه الأرض إلا ويصلي بلغتهم، ويتجه للقبلة في أرضهم. وإني إذ أبعدت التطواف، وجاشت مني الحشاشة، فلأن أصوات بعض المؤذنين بدأت تنحسر، أو صرت تسمع أحدهم يلقي الأذان كمن ينفض الشيء عن كمه! بأداء جاف لا تغنٍ فيه ولاخشوع، في وقت لم يبق لنا من مساجدنا شيء يجمعنا بها غير هذا الأذان، وإطلالات هذه المآذن. والله المستعان.


* كتبت هذه التدوينة أيام الحجر والتباعد في جائحة كورونا حيث الصلاة في البيوت ولم يبق من المساجد إلا رفع الأذان.
...تابع القراءة

| ]




لن ننسى - زملائي وأنا - ذلك اليوم الدراسي وقد كنا طلابا في المرحلة المتوسطة، حيث قسمنا التحدي إلى فئتين، ومن بداية ذلك الأسبوع، اشتعلت التعليقات بيننا لمباراة كرة القدم في حصة البدنية التي تأتينا يوم الأربعاء آخر الأسبوع، لم يكن الملعب مزروعا، لاطبيعيا ولا صناعيا، كانت المدرسة في مبنى مستأجر، كانت عبارة عن حجرات ذات دور أرضي هي غرف الفصول وكانت تحيط بالساحة، وهذه الساحة هي ملعب كرة القدم وكرة الطائرة في الوقت نفسه، وكانت خليطا من الرمل والطين وشيئا من قطع الخرسانة البيضاء والحصى!
قضينا تلك الأيام بالتخطيط والتوعد والترقب، كان معلم المادة من دولة مصر الشقيقة، وقد كانت عادته أن يخرجنا من الفصل ويرمي لنا الكرة ثم يغيب ولا نراه إلا نهاية الحصة، جاء يوم الأربعاء، واقتربت ساعة الصفر، وعندما حان الوقت، ورن الجرس، ارتدينا زينا الرياضي أسرع من العادة، فدخل ولم يكن في يده الكرة! إنما كان يحمل كراسة درجات لونها برتقالي، ثم قال: يالله يولاد عسّاحه!
خرجنا خلفه، ولكن لفت انتباهنا شيء وضعه في وسط الملعب، وكان ذلك حصان القفز ذو الظهر البني والأربعة أرجل لرياضة الجمباز!
جلس على الكرسي، ووضع سجل الدرجات فوق ركبته وفي يده قلم، وهو يسرق الالتفات ناحية الإدارة في كل مرة، وقال: يالله يولاد .. طابور. النهار ده حناخد درس في القمباز!
انخرطنا في الطابور ونحن محتقنين، ولدينا أمل أنها فترة قصيرة من الحصة وتنتهي، وجعل ينادي واحدا .. واحدا للقفز، وهو يسجل الدرجة، وينطق أسماءنا بلكنة مصرية لازلنا نتذكرها: يالله ياعبزيز .. يالله ياموبآرك ( بقلقلة الراء )
واحدا .. واحدا .. ودقائق حصة البدنية تسرع دائما بخلاف دقائق الدروس الأخرى، ومثلها دقائق الفسحة، وكنا في مخيلته كما في الصورة، وكانت مخيلتنا تذوب فيها شعلة التحدي كلما مرت الدقائق، حتى انطفأت تماما.
وقبل أن يرن الجرس، برز لنا مدير المدرسة برفقته رجل يظهر عليه أثر الرسمية، وقفا على رأس الأستاذ وهو يقيد الدرجات، وشكره الزائر على تفعيل الرياضات المتنوعة!
وحالما أدبرا عنا، رن الجرس، وذهبنا غاضبين جدا، محتقنين، نتمتم بعبارات الاحتجاج والتسخط ونحن نغسل أقدامنا قبل العودة للفصل، للحصة التالية.
حصة الرياضيات!




...تابع القراءة

| ]



هذه الأيام، رأيتها أكثر من مرة، رأيتها في أكثر من موضع، رأيتها تمشي في أحد السكك، ورأيتها متعلقة بأستار الكعبة، ويخيل إلي أني رأيتها يتصفد جبينها الأسمر بالعرق وهي تكابد الصرع وتحاول شد ثيابها، امرأة سوداء طويلة، كأني أنظر إليها هادئة، مشغولة بنفسها، يهتز رأسها المخمر وهي تمشي، قال قائل بأنها حبشية، وأنها تكنى أم زفر، وقال آخر بأن اسمها سعيرة.

كانت مهمومة بمرضها، ذلك الصرع الذي ينهشها على حين غرة فتدخل في دوامة تفقد معها القدرة على التحكم والسيطرة، وفي مرة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألته أن يدعو الله لها بالشفاء، وكانت المفاجأة!
حيث خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدعو لها فتشفى، أو تصبر ولها الجنة من دون حساب، وقفت لبرهة، ثم قالت: أصبر، ثم استدركت لموضوع يهمها بالدرجة الثانية بعد الصرع، وهو أنها تغيب عن وعيها فتتكشف، وفي هذا ألم نفسي زائد على الألم الجسماني، فقالت: ادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها.
لطالما أحسست في صدري حشرجة كلما تذكرتها.
ولطالما أعظمت فيها هذا الحياء الذي ذهبت تتلفع به دون التكشف.
وكم من امرأة  تتكشف عمدا من دون صرع!

وإنني أتأمل.
هذه اللحظات التي يخرج فيها الإنسان عن طوره الطبيعي، غصبا عنه، فيكون في حالة حرجة في حادث ما، أو غيبوبة مرض، أو حالة غضب تخرجه عن طبيعته، أو حتى حالة سكر، حتى إذا انزاحت عنه غمته، عاد يسترجع الذين شهدوه في حالته، حرجا وحياء.
الأدهى من هذا كله أن توثق تلك الحالة عدسة متطفلة.
وكم في العالم من إنسان فارغ ربما سارع ليوثق امرأة مصروعة تتكشف!

في السنوات الأخيرة، ارتج العالم على عنصرية رجل أمريكي أبيض يجأ بركبته عنق رجل أسود حتى فارق الحياة.
هذه العنصرية المتغلغلة عجزت عن تطهيرها كل الشعارات، ولم يفد فيها حركة يؤديها اللاعبون تضامنا في حركة تمثيلية قبل انطلاق صافرة المباراة! وفرق بين شعار أجوف وسلوك ينبع من مبدأ وعقيدة، وهذا محمد ‏ﷺ ، أفضل مخلوق بشري، قبل ألف وأربعمئة سنة، يخرج من المسجد الذي يؤذن فيه حبشي أسود، لتستوقفه امرأة سوداء وتحاوره في الطريق، وتطلب منه طلبا فيخيرها، ويوعدها مشاركته الجنة، وكان ابن عمه ابن عباس - القرشي الهاشمي - يقول لعطاء بن أبي رباح - الأسود - ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ ثم يشير إلى أم زفر.
وعظمها الصحابة والتابعون وأهل الحديث، وتناقل الرواة قصتها رجلا عن رجل، ودونوها في كتبهم، وأخذت حيزا في شروحهم واستنباطاتهم، حتى رصدوا لها تلك التفاصيل الصغيرة، يقول عطاء: رأيت أم زفر وهي متعلقة في أستار الكعبة.


لقد مضى العمر ياأم زفر، ومضى الصبر، وبقيت الجنة.

...تابع القراءة

| ]





قصيدة رثائية في والدتي ( حصة الأحمد ) والتي توفيت وصلي عليها ليلة التاسع والعشرين من رمضان 1436هـ رحمها الله تعالى وأسكنها فسيح جناته وجمعنا بها في الفردوس الأعلى

بيني وبينكِ أحوالٌ وأهوال ** حسبي لها الله. إنّ الهمّ قتّالُ
والله يعلم هذا الحزن يهصرني ** وتحت أنيابه الأضلاع أوصال
إذا اختليتُ، وراح النّاس، يهجم في ** جنح الظلام، له نَوْحٌ وإعوال
يظل يشرب من قلبي ومن كبدي ** وفي العروق له نايٌ وموّال
يسوقني في سراديب معتّقة ** والذكريات سياطٌ حين تنهال

ماذا أجيبُ إذا مالصبية اجتمعوا ** وراح يسأل عن حلواك أطفال
أو جارة الدّار مرّت، تبتغي غرضاً ** أو لاذ عن شظف الّلأواء عُمّال
و نسوة من أهيل "الحمر" تقبل في ** شوقٍ إليكِ، ودمع العين همّال
وفي "ضراس" بيوتات تحنّ بها ** صويحباتٌ إلى الّلقيا وأخوال
يظلّ قلبكِ يروي الكون قاطبةً ** بالحُبّ. مافيه للأحقاد مثقال
قد كنتِ ملء عيوني كلما بزغت ** شمسٌ. أو انساح في الآفاق آصال
تمشين هَوْناً، خِمارُ الرّأس منعقدٌ ** من فوقه سلّةٌ، والخطو ميّال
وكنتِ لي موطناً والأرض موحشةٌ ** وكنتِ لي عضداً والبؤس يجتال
وأحتمي فيكِ ممّا لستُ أحمله ** وجسمكِ الغضُّ كم هدّته أحمال
قدحتِ في مجمع الأعمام بادرةً ** لها قبولٌ وأقوالٌ وأفعال
تركتِ من بعدها ذِكرا ستحمله ** مع الأحاديث أجيالٌ وأجيال
عظيمةٌ أنتِ ياأمّي، وشامخةٌ ** ودأبكِ الصّدق مهما راغ محتال
أنا ابن " حصّة عبدالله " أفخرُ إن ** قيل اسمها، وهو لي تاجٌ وسربال "
الأحمديّةُ " كلّ النّاس تعرفها ** نقيّةً، حيثُ لا قيلٌ ولا قال
أمّي التي في يديها الحبّ أجمعه ** وفي أصابعها ذِكرٌ وإجلال
وتحت أقدامها الدّنيا وما وسعت ** وتحت أقدامها الجنّات تنثال
وفي معاطفها ريحُ الأمومة يا ** واهاً له. إنّ بعض العطر أطلال
الله يعلمُ ماحقّقتُ أمنيةً ** إلا لها - بعد فضل الله - إفضال
واليوم أُغلق بابٌ كنتُ أذخره ** للنائبات. وما بالباب أقفال

بيني وبينكِ أحوالٌ وأهوالُ ** واليأسُ قُبحٌ. وفي جنبيّ آمال
سنلتقي، وسنقضي عمرنا فرحاً ** وحولنا الأهلُ، والجيرانُ، والآل
وسوف نذكرُ أيّاماً، وماصنَعَتْ ** بنا السنينُ، وما قلنا، وما قالوا
مافي المزادة من شيء أُقدّمه ** وليس لي عُدّةٌ تكفي وأعمال
لكنّني مؤمنٌ باللّه، رحمتُه ** زادي إليه، وحسنُ الظنّ، والفال
قد أرضَعَتْني إيماناً ألوذُ به ** مستيقناً أنّ للأعمار آجال
والله حقٌّ، وهذا الموت موعده ** حقٌّ، وتُعرضُ يوم الدّين أعمال
فالطف بها ياكريم الصّفح وأت بها ** عروسةً في ثياب الحسن تختال
مبارك المحيميد
4 شوال 1436هـ
...تابع القراءة

| ]



قبل أيام، عندما قمت بعمل صيانة لنظارتي، اضطررت للبس نظارة احتياطية، وكانت هذه النظارة من النوع البلاستيكي القديم الذي يكثر ارتداؤه لدى كبار السن، وهذا سيجعل شكلي مختلفا بشكل لافت، وأنا لا أحب أن أظهر بشكل لافت أبدا، ولا أحب أن تسلط الأضواء نحوي مباشرة، حتى لو كان التغيير بشيء جديد وجميل، حتى إنني أكره تلك البدايات في ارتداء الثوب الجديد والشماغ الجديد، وهذا طبع أظن أنني لا أنفرد به، فحينما تداولناه في مجلس وتكاشفنا به ضحكنا جميعا، وقال أحدهم إنني أحيانا أضطر لوضع الغبار على حذائي الجديد.

وفي مرة كنا على أهبة الذهاب إلى رحلة برية، وأطاعني أصحابي في تأخير وقت الانطلاق إلى بعد العشاء، حيث سأحضر حفل زواج زميل لي، وأثناء ماكنت أتجهز، انزلقت ماكينة الحلاقة بشكل عشوائي على أحد أطراف شاربي، فعدت للطرف الآخر أشذبه على نفس المستوى، فصار أقل بكثير من الأول! ومضيت أوازن الطرف الأكثر، وهكذا صرت أتنقل بينهما حتى حلقت شاربي على درجة الصفر! وأصبح شكلي كأنني واحد من زمرة المنافقين في مسلسل تاريخي مصري! مما اضطرني لإرسال رسالة اعتذار لزميلي عن الحضور.
وبعد ساعتين، كان هناك شنب ملحوط على الزيرو يلمع على ضوء نار الارطى وسط نفود سامودة.

وأنا اليوم لست أنا قبل سنوات بعيدة، فقد تصالحت مع نفسي كثيرا، ولم أعد أهتم لكثير من الأمور المظهرية، والحمد لله.

ارتديت النظارة، وقلت لأنظر ردات الفعل.

وانقسم الناس حيال ذلك إلى أنواع وأقسام:
- النوع الأول: الذين لم يظهروا أي ردة فعل، وكأن شيئا لم يحدث، لم تتغير نظراتهم، لم يتفوهوا بأي تعليق، لم يقولوا أي شيء، وهذا النوع عندما كنت أقول له: ألم تلاحظ في شكلي اختلافا؟ انقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم ابتسم وقال لا والله ما تغير علي شي! والقسم الثاني من ابتسم وقال نعم شفت النظارات وشكلك فيها أجمل. والقسم الثالث من ابتسم وقال إلا، لاحظتها، ولكنني استحيت من مفاتحتك!
النوع الثاني: الذين أظهروا التفاعل من أول نظرة، وهؤلاء انقسموا إلى قسمين: القسم الأول الذين حدقوا باندهاش وأبدوا إعجابا مبالغا بـ "النيو لوك" على حد تعبيرهم. وأما القسم الثاني، وهو القسم الخبيث، القسم الذي يعجبك رغم أنه يجرحك، أولئك الذين انفجروا بالضحك من أول نظرة، وألقوا التعليقات على الشكل.


هؤلاء الأذكياء الفطناء الخبثاء، الذين يلمحون الشعرة ولا يخفون عنك مشاعرهم ووجهات نظرهم، هم الذين يسندونك إذا وقعت، ويقومونك إذا اعوججت! 


...تابع القراءة

| ]






هذه الأيام، تناقل الناس خبرا عن رجل خطب منه آخر فذهب يسأل عنه في حيه حتى سأل عنه العمالة فذكروه بسوء، فلم يزوجه.
وكان سؤاله هذا أمارة عقل.
فإن الأخلاق تنكشف هناك في التعامل مع الضعفاء والخدم والفقراء والأيتام والمساكين ممن ليس لهم قوة يدافعون بها عن أنفسهم، ولا يملكون مطمعا أو مصلحة يلهث الآخرون خلفها.

كثيرا ما كان يأخذني التأمل في ذكر "الماعون" في سياق السورة، ولماذا دخل أمر من أمور الحياة المعيشية مثل منع إعارة الماعون مع الأمور العبادية كالصلاة؟!

وكأنها تشير إلى صور من التناقض الصارخ لمفهوم العبادة، والإدراك الأحول المشوه للدين والشريعة.
فقد تجد من يبذل الأموال الطائلة في فكاك رقبة لأن المشارك فيها يتم الإعلان عنه بمفخرة بين الجماعة بينما تجده نفسه يقصر ببذل مبلغ زهيد جدا لتفريج حالة تتوقف عليها حياة مريض - من الجماعة نفسها - ولكنها لم تأخذ ذات الزخم الإعلامي.
والماعون الذي يطلبه منك جار أو قريب في أمس الحاجة له، في لقاء ثنائي على عتبة الدار، في زقاق منعرج بعيدا عن أعين الناس، ليس كإنفاق في مجلس يشهده علية القوم، أو في مجمع يرى الناس فيه عملك.
هنا تظهر الأخلاق التعبدية على حقيقتها.
نعم الأخلاق التعبدية.
فالأخلاق كلها عبادة، والحياة كلها عبادة، وإن العبادة هي كل عمل يرضي الله في الحياة من عبادات ومعاملات.
وهنا إشارة إلى أن الإخلال بالأشياء الحياتية البسيطة عن شح هو من المنكرات الأخلاقية في طبيعة الإنسان، وكان من المفترض على المصلي أن تنهاه صلاته هذه عن الفحشاء والمنكر، لولا أن هذا المانع للماعون كان يلبس ثوب الصلاح أمام الأعين ويرائي به، فيما ينزعه هناك مع الضعفاء فيدعّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ويمنع الماعون، وينزعه هناك حين يغيب عن وجوه القوم وعليتهم، هناك حيث لاعين ترى ولا ذكر يذاع ولا عدسة ترصد.
وكان على المؤمن أن يكون فطنا ذكيا حيال هذا.
هذا الذي يصلي وتراه في أحسن صوره، وينفق ويتم الإعلان عن إنفاقه، لا يكفي لأن تحكم عليه من هذه الصور التي ظهرت لك عليه، وإن البسطاء هم الذين تأخذ ألبابهم تلك الطنطنات الفارغة، ولهذا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليعيد الموازين فسأل أصحابه عن رجل فقالوا: حري إن نكح أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وقالوا عن الآخر: حري إن نكح أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، فقال: هذا خير ملء الأرض من مثل هذا.
وحين سئل عن أمر خطبة لم يذهب بعيدا في وصف صلاته وقراءته، وإنما وصف الأول بأنه صعلوك لا مال له، والآخر بأنه لا يضع العصا عن عاتقه.

هناك مثل عامي مشهور يقول ( قالوا للحرامي احلف قال جاك الفرج! )
وهم يعنون أن الإنسان المراوغ المتمرس على اللصوصية والادعاء والكذب والتمثيل يسهل عليه ارتداء اللباس الشرعي مع نية فاسدة وقصد خبيث ولامبالاة فجة، ويسهل عليه تمثيل الصلاح لمسافات معينة.
وقد يمكن تحوير المثل ليكون ( قالوا للخاطب نبي نسأل عنك إمام المسجد وشيوخ القبيلة قال جاك الفرج! )





...تابع القراءة

| ]



لازلت أذكر عندما تمر علينا أيام النُّسك صغارا، وربما كنا صبيحتها غارقين في النوم، فيدخل ليوقظنا أبوعلي، أخي عبدالعزيز رحمه الله وهو يقول: قم ياولد .. فصل لربك وانحر ..
لقد ظلت كلمات التوحيد هذه تتجلجل في رأسي منذ ذلك الحين.

فصل لربك وانحر.

‏ونخرج لنمسك الأضحية، ونوجهها للقبلة، ويتمتم أبي رحمه الله بدعوات، فينمي إلى تلك الآذان الصغيرة قوله: باسم الله والله أكبر .. اللهم إنها منك ولك.

إنها صورة عظيمة من أعمال التوحيد، لاتزال عالقة، حيث ينعقد القلب على تفرد رب واحد مستحق للعبادة، اتباعا لهدي نبيه محمد ﷺ.

‏وإنّ الموحد ليأخذه التأمل في تلك الصورتين، في الفرق بين التوحيد والشرك، فيجد أن عملية الذبح واحدة، والعمل عليها واحد، ولكن الاختلاف فيما انعقد عليه القلب، وصدّقته الجوارح، طاعة واتباعا لقوله:  " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه "
وقوله: " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه "

‏حتى إذا وجبت جنوبها. ذكرنا اسم الله آكلين منها فنؤجر، ونشبع فنحمد الله على ماهدانا إليه من التوحيد، وأنعم به علينا من النعم، ونشكره فنؤجر.
فنكون موحدين بأعمال الذبح والنحر، موحدين بالأكل والشرب، موحدين بالشكر.
ومن شكره زاده، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه. والله هو الغني الشكور.


‏ولقد كان فيمن قبلنا من قرب ذبابا فمات على الشرك، وقال الكافر: باسم الله رب الغلام فأصاب الله به المحز.
إنها أعمال تتشابه، وماكانت سوى لحم ودم، والله غني عنا، وعنها، فـ " لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤُها ولكن يناله التقوى منكم "
والسر في معاقد القلوب، والتوحيد، والاتباع.

‏إن أمر التوحيد عظيم، وسره عجيب، ومن عاش تفاصيله، وجد حلاوة الإيمان، ولقد قال القائل: ماسبقنا أبوبكر بكثير صلاة ولا صيام ولكنه إيمان وقر في قلبه.
لقد آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد ﷺ نبيا، ظهر ذلك في أحلك حالات التشكيك والتكذيب به، حتى سُمي لذلك بالصدّيق.
لقد كان صاحبه وصفيه وخليله، وماكان ذلك ليمنعه من أن يعرف مقامه من مقام الله وحده،في يوم الفراق الصعب، ذلك اليوم الذي ارتجت له القلوب، فخطب قائلا" من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: " ومامحمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل "

‏إن هذا الفقه العقائدي في ترتيب المقامات لهو لب الإيمان، وإنه لهو منبع الرضى والسعادة والاطمئنان.

لقد حكى القرآن صورة للفرق بين أجير مشتت، قلق النفس، يتعاوره شركاء متشاكسون، بأوامر متناقضة، وآخر سلما لرجل واحد، هل يستويان مثلا؟

ولهذا قيل: " فلواحدٍ كن واحداً في واحد "*

‏والتوحيد سلوك، فإذا كنت تطلب الرحمة من ربك ليقينك أن من أسمائه الرحمن، وأنك عبدالرحمن، فإن هذا يستدعي منك أن تكون رحيما بالخلق.
وقد قال الله في شأن أبي بكر لمسطح" وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم"
فتعفوا وتغفر لأنك عبدالعفو.. الغفور، وترجوا منه العفو والغفران.
وتكون ودودا رؤوفا لطيفا لأنك عبدالودود، الرؤوف، اللطيف، وتعبده بتذلل لأنك عبدالعظيم، وتسأله لأنك عبدالسميع، المجيب، ولاتتجرأ على تدبيره فتتألى عليه وتقول: والله لايغفر الله لفلان، لأنك عبدالعليم، القادر، من بيده كل شيء، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وهو على كل شيء قدير.

عندما سمعت قصيدة الراحل ابن نحيت رحمه الله، يرثي فيها نفسه، وقفتُ طويلا أمام بيت منها، فيه توحيد وانقياد، وإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وقد اشتمل على معنى من هذه المعاني التي نتحدث عنها، حين يقول:
وخُطّوا على القبر "عبدالغفور"  ** وإن كنتُ من قبل "عبدالغني"
لقد كان منشغلا بحياته وتكسّبه فهو عبدالغني. يطلبه الرزق، ويرجوا منه الغنى، فلما مات وانقطع عمله أصبح في منزلة عبدالغفور، يرجوه غفران ذنوبه وتجاوزه عن زلاته.
ولازلت أذكر جارنا الشيخ إبراهيم السويد رحمه الله، بلحيته البيضاء الوقورة، وقد شد شماغه على وسطه، حتى إذا لف الكر على النخلة، ووضع قدمه على أول كربها قال: إياك نعبد وإياك نستعين، ثم ذهب مصعدا لأعلاها، فماتراه إلا بين سعفها وقنوانها.
وهكذا هو الموحّد، يتقلب في منازل عبوديّته لربه، حتى تكون صلاته، ونسكه، وأعماله، وتصرفاته، ويومه، ومحياه، ومماته، لله رب العالمين، لاشريك له.

‏وهذا التوحيد العظيم، نسك الحج، والعج، والثج، لطالما تأملتُه خاشع الجوارح، مأخوذا بجلاله، وروحانية الاستسلام في أنساكه، بهيبة ذلك البيت المعظم، والكعبة المشرفة، والمشاعر المقدسة، في ذلك الوادي المقفر غير ذي الزرع، وهو مع ذاك تهوي له القلوب، وتفد إليه الحشود من كل فج عميق.
يَفِدون إليه مؤمنين موحدين، مكبرين ملبين، فيمرّون إلى جوار بِيَع اليهود وأهلها، أهلها الذين يقولون: يد الله مغلولة! ويقولون: إن الله فقير ونحن أغنياء! يمرون بهم وهم يرددون بإيمان تفيض حلاوته على ألسنتهم قائلين: " لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك"

ويمرون مكبرين ملبين إلى جوار الكنائس وأهلها، أهلها الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة! يمرون بهم وهم يقولون " لبيك لا شريك لك "

ويمرون مكبرين ملبين على أولئك الذين يحجون للمشاهد، ويتوسلون بالأضرحة الصماء، ويقدمون لأمواتها القرابين!
يمرون بهم وهم يرددون: " لا شريك لك".

‏ويمرون مكبرين ملبين إلى جوار المعابد، والتماثيل، وعبدة الأبقار، والملحدين الذين تركوا ربا واحدا وعبدوا أهواءا متعددة، وأهل الطبيعة الذين آمنوا بخلق وكفروا بخالق مبدع مصور أتقن كل شيء وأحسن كل شيئ خلقه. يمرون عليهم بإيمان نقي كإيمان عجائز نيسابور، ويقين الفلاحين، والأميين.

‏يتبعون أثر نبيهم على القصواء، لهم جؤار بالتلبية، كما أقبل موسى بن عمران من وادي الأزرق، وأقبل يونس بن متى من ثنية هرشى على ناقة حمراء.
متناغمين مع الكون الذي يسبح بحمده، يردد معهم الحجر والشجر:" لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك " 

حتى إذا اجتمعوا في ذلك الصعيد الأجرد، شعثا، غبرا، يلهجون بكلمة التوحيد العظمى " لا إله إلا الله وحده لاشريك له لك الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" دنى منهم ربهم، وباهى بهم ملائكته.
ملائكته الذين يطوفون له بالبيت المعمور، ويسبحون له بالليل والنهار وهم لا يفترون.

‏يباهي بهؤلاء الذين خلقهم من طين وركّبهم من عقل وشهوة، فوحّدوه بعقولهم، وآمنوا به بقلوبهم، وتساموا عن صلصالهم، فهجروا شهواتهم، وتركوا صغارهم، وتجاراتهم، وأقبلوا يقطعون القفار والبحار، ويطيلون الأسفار، لا لشيء إلا لإقامة ذكر الله في المكان والزمان، طاعة وانقيادا واتباعا.

‏يباهي بهؤلاء الموحدين الذين لما خلق الله أباهم قالت الملائكة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: إني أعلم مالا تعلمون"
هؤلاء الذي أقبلوا من كل فج عميق، تتمايز لغاتهم، وأجناسهم، وأعراقهم، وأشكالهم، وألوانهم، الأبيض والأسود والأحمر والأصفر.

‏يلبسون البياض، وينشرون الابتسام.
ويبدؤون بالسلام، ويلينون الكلام، فلا فسوق ولاجدال في الحج.
لايعضدون شوكا أوغصنا، ولاينفرون طائرا، ولا يلتفتون للقطة ساقطة.
يميطون الأذى، ويعطون الطريق حقه.
يلتقطون الحصى من تحت أرجلهم يراغمون به عدوّ الله، وعدوّهم.
ويطّوّفون بالبيت العتيق.
يذكرون " اسم الله " في منسكهم، إيمانا بـ: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " 
تماما كما سمعت أبي بأذني الصغيرة يتمتم " باسم الله والله أكبر. اللهم إنها منك ولك " إيمانا بـ: " فاذكروا اسم عليها "

هذا هو النسك وهذا هو التوحيد.
وذلكم الله ربكم.
 فله أسلموا.
وبشر المخبتين.
...تابع القراءة

| ]

         




     يطلق عليه صديقي ظاهر "الكنترول الاجتماعي"، بيني وبينكم، لم أستطع إخفاء إعجابي بهذا المصطلح لحظة تزحلقه بين شفتيه، " الكنترول الاجتماعي ". استطرد، فيما بقيتُ ألوكه وأتطعم به كحلوى مكتنزة. إطلاق من ذلك النوع الذي يعجبك. لدرجة ترغب معها خوض أقرب حوار لتتحذلق به :) .
     
      في مجتمعنا -غالبا- نفكر بالعقل الجمعي، ونختار بالذوق الجمعي، تستطيع معرفة الحقبة الزمنية من مخطط البيت وشكله ولونه، معرفة ميلاد الشخص من اسمه ، إن غالب الناس يفكرون بالعقل الجمعي، ويختارون - تحت تأثيره - مخططات البيوت وألوانها ، أسماء الأولاد والبنات، الدراسة واختيار التخصص ، الوظيفة ، كثير من طرق التفكير والعيش تتشاكل في مجتمع متلاصق، بعقل واحد.

     هذا الاعتماد على تفكير الآخرين، والخمول في الابتكار والتجديد، جعل من العزيز تمحيص الآراء والأفكار والثقافات، وحتى الأذواق. فكان التوارث لها بكل سهولة. لو سألت أحدهم عن أشعر الشعراء لقال لك: المتنبي. بينما لم يقرأ له ولم يقرأ لغيره! ولو سألته عن كاتب لقيّمه لك نقلا عن تقييم الشباب له في الاستراحة! وربما لم يقرأ أحد من هؤلاء الشباب الذين في الاستراحة لهذا الكاتب! ولكن واحدا منهم - لديه كاريزما - نقله لهم من زميل له في عمله، وهذا الزميل بدوره قد نقله عن صديقه ! .. ويظل هذا الرأي، وهذا التقييم، تتناقله الدوائر، تماما كتلافيف الدماغ في عقل جمعي، حتى يصبح رأيا بديهيا، وحكما مفروغا منه! فيما لم يكلف أحد منهم تفكيره التحليل بنفسه. حتى يصبح من الصعب الخروج عن هذا الفلَك. والوقوف مقابل هذا المد الجارف، ونعود أدراجنا إلى تأثير الكنترول الإجتماعي الضاغط. حتى ليقول أحدهم لفكرتك: من يقنع الناس؟ 
     في حقبة مضت، ظل أحدهم يعلق ساخرا : لفترة .. ظننت أن الكرسيدا توزعها الأوقاف على أئمة المساجد! وماكان ذلك إلا من هذا، ولكن الناس لايشعرون. هذه المشاكلات تكثر في المجتمعات المترابطة،  الأكثر تواصلا، وصلة، ستجد نوعا من السيارات كثيرا في بلد معين عن آخر، ستجد أكلة معينة، ستجد اسما، لا بد أنك ستجد شيئا متوارثا، إلا من ثائر على هذا الكنترول، أو اثنين، يخرج برأيه، ويبتكر تجديده، فيسخرون منه، ويمضي الزمن، فيتشربون فكرته، فيطبقونها، فيتوارثونها هي الأخرى!

     ولقد تصبح عادة لا فكاك منها، دون أن يعرفوا سبب نشوئها، يُروى عن سلطان تولى مجددا فدار في القصر ورأى جنديا في باحته تحت الشمس بلا سبب! فسأل، فلم يعرفوا إلا أنها من الأوامر العسكرية المعروفة في القصر. بعد التحري وجدوا الجواب لدى جدة السلطان، حيث أخبرت بأنه في زمن سابق، كانت هاهنا وردة تحبها ابنة السلطان، ولأهمية الحفاظ عليها جاء الأمر بالتوقف الدوري من أجل سلامتها من العابرين داخل القصر، لقد ذهب السلطان، وذهبت ابنته، وماتت الوردة، وبقي الأمر والعادة :)

     قبل أن أذهب. اسمحوا لي أن أزحلق بين شفتي كلمة صديقي ظاهر: " الكنترول الاجتماعي " :)
...تابع القراءة

| ]

    


    
     إني لأعجب من نزوع الناس لاعتقاد طي الصحف، ورفع الأعمال، وكتابة المقادير، نهاية كل عام هجري! فيما ليس لنهاية التاريخ الهجري علاقة به!
    لقد وقته الفاروق رضي الله عنه لمعرفة الحساب، واصطلح هو والصحابة على أن يكون يوم الهجرة بداية ميقات التاريخ، فهو بهذا المعنى العظيم، والارتباط السامي، يعتبر بداية لانهاية، بداية حضارة إنسانية مشرقة لهذا العالم المظلم المتخلف.
    ولكننا في الشرق عاطفيون. تؤثر فينا النهايات، وغروب الأشياء، والحلقة الأخيرة، فنخلق من اللاشيء فرصة لاستدرار العطف، وطلب المسامحة، والعفو.
    أما نهاية وبداية السنة فهي إلى ليلة القدر أقرب، يقول تعالى "فيها يفرق كل أمر حكيم" قال السعدي رحمه الله " ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة " ا.هـ
    ناهيك حين يوافق ذلك آخر جمعة، وآخر ساعة، ستجتمع فيها مناحة كربلائية بشحنة من الدعوات لاستدراك اللحظات الأخيرة في تبييض الصحف التي بدأت تطوى!
    وماطويت، ولكن الجاهلين همٌ
    إن عظمة هذه اللحظات مرتبطة بخطى ذلك الرجل العظيم، وهو يسارع نحو الغار، حاملا في صدره رسالة النجاة لهؤلاء الذين يطاردونه  يسرع الخطو، برفقته صاحبه الصديق، في جوف المخاطر، والعالم من خلفه مخمور، يرغي ويزبد، في يده السيف يبحث عنه، في هيجان ملتاث، ليس لجريرة اقترفها، ولا لجناية اجترحها، سوى أنه يأمرهم بما هو أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم.
    رجل في سن الثالثة والخمسين، ينادونه منذ صغره: الصادق الأمين!
    شريف بينهم، كريم عليهم، رحيم بهم.
    لكنه يخرج الآن متخفيا، وقد خلف أهله، وترك وطنه.
     ذلك كله يفعله لأجلهم، ليأخذ بحجزهم عن النار.
     سوف يعود.
     سيعود بعد أن يشجوا رأسه، ويكسروا رباعيته.
     سيعود وينتصر عليهم، ويملك القرار على رقابهم، فيعفوا عنهم، ويقول برحمة العظماء: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

    إنني لاأجد للعرب مفخرة هي أعظم من هذا النبي، بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليهأصدق إنسانية، وأروع خلقا وتحضّرا
     والله يعلم، ماقلبت سيرته ** يوما، وأخطأ دمع العين مجراه* 

     اللهم إني أشهدك، وأشهد ملائكتك، وجميع خلقك، أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء. ليلها كنهارها. لايزيغ عنها إلا هالك.


...تابع القراءة