| ]



لازلت أذكر عندما تمر علينا أيام النُّسك صغارا، وربما كنا صبيحتها غارقين في النوم، فيدخل ليوقظنا أبوعلي، أخي عبدالعزيز رحمه الله وهو يقول: قم ياولد .. فصل لربك وانحر ..
لقد ظلت كلمات التوحيد هذه تتجلجل في رأسي منذ ذلك الحين.

فصل لربك وانحر.

‏ونخرج لنمسك الأضحية، ونوجهها للقبلة، ويتمتم أبي رحمه الله بدعوات، فينمي إلى تلك الآذان الصغيرة قوله: باسم الله والله أكبر .. اللهم إنها منك ولك.

إنها صورة عظيمة من أعمال التوحيد، لاتزال عالقة، حيث ينعقد القلب على تفرد رب واحد مستحق للعبادة، اتباعا لهدي نبيه محمد ﷺ.

‏وإنّ الموحد ليأخذه التأمل في تلك الصورتين، في الفرق بين التوحيد والشرك، فيجد أن عملية الذبح واحدة، والعمل عليها واحد، ولكن الاختلاف فيما انعقد عليه القلب، وصدّقته الجوارح، طاعة واتباعا لقوله:  " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه "
وقوله: " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه "

‏حتى إذا وجبت جنوبها. ذكرنا اسم الله آكلين منها فنؤجر، ونشبع فنحمد الله على ماهدانا إليه من التوحيد، وأنعم به علينا من النعم، ونشكره فنؤجر.
فنكون موحدين بأعمال الذبح والنحر، موحدين بالأكل والشرب، موحدين بالشكر.
ومن شكره زاده، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه. والله هو الغني الشكور.


‏ولقد كان فيمن قبلنا من قرب ذبابا فمات على الشرك، وقال الكافر: باسم الله رب الغلام فأصاب الله به المحز.
إنها أعمال تتشابه، وماكانت سوى لحم ودم، والله غني عنا، وعنها، فـ " لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤُها ولكن يناله التقوى منكم "
والسر في معاقد القلوب، والتوحيد، والاتباع.

‏إن أمر التوحيد عظيم، وسره عجيب، ومن عاش تفاصيله، وجد حلاوة الإيمان، ولقد قال القائل: ماسبقنا أبوبكر بكثير صلاة ولا صيام ولكنه إيمان وقر في قلبه.
لقد آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد ﷺ نبيا، ظهر ذلك في أحلك حالات التشكيك والتكذيب به، حتى سُمي لذلك بالصدّيق.
لقد كان صاحبه وصفيه وخليله، وماكان ذلك ليمنعه من أن يعرف مقامه من مقام الله وحده،في يوم الفراق الصعب، ذلك اليوم الذي ارتجت له القلوب، فخطب قائلا" من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: " ومامحمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل "

‏إن هذا الفقه العقائدي في ترتيب المقامات لهو لب الإيمان، وإنه لهو منبع الرضى والسعادة والاطمئنان.

لقد حكى القرآن صورة للفرق بين أجير مشتت، قلق النفس، يتعاوره شركاء متشاكسون، بأوامر متناقضة، وآخر سلما لرجل واحد، هل يستويان مثلا؟

ولهذا قيل: " فلواحدٍ كن واحداً في واحد "*

‏والتوحيد سلوك، فإذا كنت تطلب الرحمة من ربك ليقينك أن من أسمائه الرحمن، وأنك عبدالرحمن، فإن هذا يستدعي منك أن تكون رحيما بالخلق.
وقد قال الله في شأن أبي بكر لمسطح" وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم"
فتعفوا وتغفر لأنك عبدالعفو.. الغفور، وترجوا منه العفو والغفران.
وتكون ودودا رؤوفا لطيفا لأنك عبدالودود، الرؤوف، اللطيف، وتعبده بتذلل لأنك عبدالعظيم، وتسأله لأنك عبدالسميع، المجيب، ولاتتجرأ على تدبيره فتتألى عليه وتقول: والله لايغفر الله لفلان، لأنك عبدالعليم، القادر، من بيده كل شيء، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وهو على كل شيء قدير.

عندما سمعت قصيدة الراحل ابن نحيت رحمه الله، يرثي فيها نفسه، وقفتُ طويلا أمام بيت منها، فيه توحيد وانقياد، وإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وقد اشتمل على معنى من هذه المعاني التي نتحدث عنها، حين يقول:
وخُطّوا على القبر "عبدالغفور"  ** وإن كنتُ من قبل "عبدالغني"
لقد كان منشغلا بحياته وتكسّبه فهو عبدالغني. يطلبه الرزق، ويرجوا منه الغنى، فلما مات وانقطع عمله أصبح في منزلة عبدالغفور، يرجوه غفران ذنوبه وتجاوزه عن زلاته.
ولازلت أذكر جارنا الشيخ إبراهيم السويد رحمه الله، بلحيته البيضاء الوقورة، وقد شد شماغه على وسطه، حتى إذا لف الكر على النخلة، ووضع قدمه على أول كربها قال: إياك نعبد وإياك نستعين، ثم ذهب مصعدا لأعلاها، فماتراه إلا بين سعفها وقنوانها.
وهكذا هو الموحّد، يتقلب في منازل عبوديّته لربه، حتى تكون صلاته، ونسكه، وأعماله، وتصرفاته، ويومه، ومحياه، ومماته، لله رب العالمين، لاشريك له.

‏وهذا التوحيد العظيم، نسك الحج، والعج، والثج، لطالما تأملتُه خاشع الجوارح، مأخوذا بجلاله، وروحانية الاستسلام في أنساكه، بهيبة ذلك البيت المعظم، والكعبة المشرفة، والمشاعر المقدسة، في ذلك الوادي المقفر غير ذي الزرع، وهو مع ذاك تهوي له القلوب، وتفد إليه الحشود من كل فج عميق.
يَفِدون إليه مؤمنين موحدين، مكبرين ملبين، فيمرّون إلى جوار بِيَع اليهود وأهلها، أهلها الذين يقولون: يد الله مغلولة! ويقولون: إن الله فقير ونحن أغنياء! يمرون بهم وهم يرددون بإيمان تفيض حلاوته على ألسنتهم قائلين: " لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك"

ويمرون مكبرين ملبين إلى جوار الكنائس وأهلها، أهلها الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة! يمرون بهم وهم يقولون " لبيك لا شريك لك "

ويمرون مكبرين ملبين على أولئك الذين يحجون للمشاهد، ويتوسلون بالأضرحة الصماء، ويقدمون لأمواتها القرابين!
يمرون بهم وهم يرددون: " لا شريك لك".

‏ويمرون مكبرين ملبين إلى جوار المعابد، والتماثيل، وعبدة الأبقار، والملحدين الذين تركوا ربا واحدا وعبدوا أهواءا متعددة، وأهل الطبيعة الذين آمنوا بخلق وكفروا بخالق مبدع مصور أتقن كل شيء وأحسن كل شيئ خلقه. يمرون عليهم بإيمان نقي كإيمان عجائز نيسابور، ويقين الفلاحين، والأميين.

‏يتبعون أثر نبيهم على القصواء، لهم جؤار بالتلبية، كما أقبل موسى بن عمران من وادي الأزرق، وأقبل يونس بن متى من ثنية هرشى على ناقة حمراء.
متناغمين مع الكون الذي يسبح بحمده، يردد معهم الحجر والشجر:" لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك " 

حتى إذا اجتمعوا في ذلك الصعيد الأجرد، شعثا، غبرا، يلهجون بكلمة التوحيد العظمى " لا إله إلا الله وحده لاشريك له لك الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" دنى منهم ربهم، وباهى بهم ملائكته.
ملائكته الذين يطوفون له بالبيت المعمور، ويسبحون له بالليل والنهار وهم لا يفترون.

‏يباهي بهؤلاء الذين خلقهم من طين وركّبهم من عقل وشهوة، فوحّدوه بعقولهم، وآمنوا به بقلوبهم، وتساموا عن صلصالهم، فهجروا شهواتهم، وتركوا صغارهم، وتجاراتهم، وأقبلوا يقطعون القفار والبحار، ويطيلون الأسفار، لا لشيء إلا لإقامة ذكر الله في المكان والزمان، طاعة وانقيادا واتباعا.

‏يباهي بهؤلاء الموحدين الذين لما خلق الله أباهم قالت الملائكة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: إني أعلم مالا تعلمون"
هؤلاء الذي أقبلوا من كل فج عميق، تتمايز لغاتهم، وأجناسهم، وأعراقهم، وأشكالهم، وألوانهم، الأبيض والأسود والأحمر والأصفر.

‏يلبسون البياض، وينشرون الابتسام.
ويبدؤون بالسلام، ويلينون الكلام، فلا فسوق ولاجدال في الحج.
لايعضدون شوكا أوغصنا، ولاينفرون طائرا، ولا يلتفتون للقطة ساقطة.
يميطون الأذى، ويعطون الطريق حقه.
يلتقطون الحصى من تحت أرجلهم يراغمون به عدوّ الله، وعدوّهم.
ويطّوّفون بالبيت العتيق.
يذكرون " اسم الله " في منسكهم، إيمانا بـ: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " 
تماما كما سمعت أبي بأذني الصغيرة يتمتم " باسم الله والله أكبر. اللهم إنها منك ولك " إيمانا بـ: " فاذكروا اسم عليها "

هذا هو النسك وهذا هو التوحيد.
وذلكم الله ربكم.
 فله أسلموا.
وبشر المخبتين.