| ]



هذه الأيام، رأيتها أكثر من مرة، رأيتها في أكثر من موضع، رأيتها تمشي في أحد السكك، ورأيتها متعلقة بأستار الكعبة، ويخيل إلي أني رأيتها يتصفد جبينها الأسمر بالعرق وهي تكابد الصرع وتحاول شد ثيابها، امرأة سوداء طويلة، كأني أنظر إليها هادئة، مشغولة بنفسها، يهتز رأسها المخمر وهي تمشي، قال قائل بأنها حبشية، وأنها تكنى أم زفر، وقال آخر بأن اسمها سعيرة.

كانت مهمومة بمرضها، ذلك الصرع الذي ينهشها على حين غرة فتدخل في دوامة تفقد معها القدرة على التحكم والسيطرة، وفي مرة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألته أن يدعو الله لها بالشفاء، وكانت المفاجأة!
حيث خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدعو لها فتشفى، أو تصبر ولها الجنة من دون حساب، وقفت لبرهة، ثم قالت: أصبر، ثم استدركت لموضوع يهمها بالدرجة الثانية بعد الصرع، وهو أنها تغيب عن وعيها فتتكشف، وفي هذا ألم نفسي زائد على الألم الجسماني، فقالت: ادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها.
لطالما أحسست في صدري حشرجة كلما تذكرتها.
ولطالما أعظمت فيها هذا الحياء الذي ذهبت تتلفع به دون التكشف.
وكم من امرأة  تتكشف عمدا من دون صرع!

وإنني أتأمل.
هذه اللحظات التي يخرج فيها الإنسان عن طوره الطبيعي، غصبا عنه، فيكون في حالة حرجة في حادث ما، أو غيبوبة مرض، أو حالة غضب تخرجه عن طبيعته، أو حتى حالة سكر، حتى إذا انزاحت عنه غمته، عاد يسترجع الذين شهدوه في حالته، حرجا وحياء.
الأدهى من هذا كله أن توثق تلك الحالة عدسة متطفلة.
وكم في العالم من إنسان فارغ ربما سارع ليوثق امرأة مصروعة تتكشف!

في السنوات الأخيرة، ارتج العالم على عنصرية رجل أمريكي أبيض يجأ بركبته عنق رجل أسود حتى فارق الحياة.
هذه العنصرية المتغلغلة عجزت عن تطهيرها كل الشعارات، ولم يفد فيها حركة يؤديها اللاعبون تضامنا في حركة تمثيلية قبل انطلاق صافرة المباراة! وفرق بين شعار أجوف وسلوك ينبع من مبدأ وعقيدة، وهذا محمد ‏ﷺ ، أفضل مخلوق بشري، قبل ألف وأربعمئة سنة، يخرج من المسجد الذي يؤذن فيه حبشي أسود، لتستوقفه امرأة سوداء وتحاوره في الطريق، وتطلب منه طلبا فيخيرها، ويوعدها مشاركته الجنة، وكان ابن عمه ابن عباس - القرشي الهاشمي - يقول لعطاء بن أبي رباح - الأسود - ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ ثم يشير إلى أم زفر.
وعظمها الصحابة والتابعون وأهل الحديث، وتناقل الرواة قصتها رجلا عن رجل، ودونوها في كتبهم، وأخذت حيزا في شروحهم واستنباطاتهم، حتى رصدوا لها تلك التفاصيل الصغيرة، يقول عطاء: رأيت أم زفر وهي متعلقة في أستار الكعبة.


لقد مضى العمر ياأم زفر، ومضى الصبر، وبقيت الجنة.