| ]


·         


     عزيزي إبراهيم .. 
     لم تكن الحال كماهي عندما ودعتني في الموقف العام. لقد كان السائق الذي ركبت معه شابا نحيلا. بلا لحية ولا شارب. سيجارته لاتفارق أصابعه. أما الآن فإنني أكتب لك من منتصف الطريق. في عمق الصحراء، وإلى جواري سائق كبير السن. عظيم البدن. موفور اللحية. محلوق الشارب. أعلم أنه كان في داخلك شخص يضحك. كما أعلم أنك تعلم أن في داخلي شخص يضحك. ولم تفلح معي محاولاتك في الخيارات التي كنت تطرحها. ثم إصراري لخوض التجربة. هل جربت أن تسافر في سيارة واحدة إلى جوار أشخاص لاتعرفهم؟! اهبط من مقعدك في الطائرة. وانزل من كرسي سيارتك الوثير. ولتجرب  الورطة تتشكل الآن. ورطة من ذلك النوع الذي له طعم الكبريت. عندما يعتذر منك رفيق سفر لا تعرفه! قبل ساعة واحدة من الإنطلاق! ولديك موعد مع أحبابك في الجهة الأخرى. وليس هناك رحلات جوية. ولا نقل عام. وأنت مضطر للركوب مع الكدادة كمايسميهم صديقي تركي. وذلك نفق عظيم لو كنتم تعلمون. كان الأفق أمامنا يحاول ابتلاع الشمس. أما الأفق الذي خلفناه وراءنا فقد ابتلع المدينة بأكملها. السائق النزق، والرجل الهندي في الخلف، وأنا في الأمام، ورابعنا الطيب الصالح، نسيت أن أخبرك. عندما اتفقنا على السعر قام الشاب بإنزال الرجل الهندي للقمرة الخلفية. لاأدري هل أعلق أم لا ربما كان السائق يريد المسامرة وقطع الطريق، لكنه في نهاية الأمر لم يفلح. لم يكن شكله مريحا، ولم يكن أسلوبه مشجعا على ذلك. الهندي في الخلف يرفع صوته في مكالمة هاتفية بلا مبالاة. الشاب يشعل سيجارة بلامبالاة. يبدو أن الدوائر الشخصية التي كنا نتحدث عنها قد اختلطت وتداخلت. متى يدرك الناس أن حدود حرياتهم تنتهي عند حدود الأشخاص الآخرين عندما أمشي في غمار الناس في البلدان الأخرى، يشدني مشهدهم وهم يعلقون السماعات في آذانهم، ولا يدخنون في الأماكن المغلقة، ألم يسبقهم محمد لصيانة الحقوق الشخصية في الأماكن العامة بقوله "أعطوا الطريق حقه" أما أنا فقد كنت غارقا في رحاب الجنادرية وأصيلة. هل أخبره أن إشعال السيجارة في مكان خاص عمل غير لائق؟! هل نصل إلى هذا الحد من ضرورة التذكير باللباقة الإجتماعية؟! سأروي لك ماهو أبعد من ذلك بعد قليل عندما اختلفت الأمور. حدثتني دائرتي بفتح النافذة ففعلت. ووصلت الرسالة. حاول اقتحامي بالأسئلة. وليس من عادتي فتح النوافذ والأبواب للغرباء. هل من حاجة لذلك؟ كيف وقد ظهر منه مالا يعجبني. والأسئلة من النوع الشخصي. لم أترك الإجابات. ولكني تعاملت معها بطريقة أخرى. حيث كنت آخذ رماح أسئلته وأغير أسنتها ثم أعيدها إليه مباشرة. عندما رأى ذلك مني سكت. هذه العلاقات بين الناس شيء عجيب. عندما غصت مرة في أعماق البحار رأيت أسلاك الصيادين المهملة حول الشعب المرجانية تلمع تحت ضوء الشمس. متداخلة. متقاطعة. متناشبة. ممتدة. إن الذي يحدث في علاقات الناس شيء يشبه ذلك. لكنه مما لا يمكن رؤيته. حروب صامته. انتصارات وهزائم. خطط ومعاهدات خيوط مثل خط الاستواء. يؤثر ولا يُرى. بغض وإعجاب، وانتقام وإسقاط، وتجاذب وتنافر، وإلى مالا نهاية من النوازع النفسية. ليست معلنة باليد والسنان. ولكنها خفية. يومية. سلاحها العين والأذن واللسان. يضحك صاحبي كثيرا عندما يخرج من بيته ويقول معلقا: لقد لبست لأمتي ودرعي. لم أكن بمزاج يسمح لي بالحديث. كماأنني تسربلت بالقراءة. وتقوقعت. حتى إذا قطعنا قريبا من ثلث المسافة انتحى جانب الطريق. ونزل! التفت أبحث عنه وإذا هو واقف جوار الباب يتحدث في الجوال! مالذي يحدث؟ لا أدري! عندما هممت بالنزول توقفت إلى جوارنا سيارة أخرى. هبط منها ثلاثة سودانيين جعلوا يأخذون أمتعتهم. ونزل السائق الضخم ذو اللحية الموفورة وأقبل نحو السائق الشاب وجعلا يتحدثان. فتح صاحبنا الباب وقال: انزلوا مع هذا الرجل يكمل بكم الطريق. وأنا سأعود بهؤلاء السودانيين إلى المدينة! ياإبراهيم أنت رجل قانون .. هل كان هذا مكتوبا ضمن العقد؟ هل كان هناك عقد؟! نزلنا رفيقي الهندي وأنا، وركبنا مع الرجل الضخم. وحملت أغراضي فنضحت رائحة الكمون والهيل والقهوة. وركبنا الطريق مرة أخرى. ظل الرجل صامتا مدة نصف ساعة تقريبا. سوى من لحظة تذكر ندب فيها حظه أنه لم يتذكر شراء بطاقة شحن! لم تتضح شخصيته بعد. الدوائر مازالت ساكنة. كعيني قرش كان سارحا كأنما يتذكر عهدا بعيدا. وفي لحظة ما. التفت إلي فجأة وجعل يتأملني. وجهه الضخم حيال وجهي. ثم انفجر ضاحكا وقال : أنت خليف عتّاق؟ انفجرت أنا بالضحك أيضا وقلت: من خليف عتاق؟ - سبحان الخالق والله انك خليف عتاق. وينفجر بالضحك. هذا ياإبراهيم لعن أم الدوائر! هذا ياإبراهيم لم يعترف أصلا بالدوائر. ولا الخيوط. ولا خط الاستواء. ولا ديل كارنيجي. ولا أصحاب: أخرج القوى السحرية التي في داخلك! هذا الرجل يعيش وحده حرا. ويعامل الناس كما تعاملهم الملوك! جعل يجمع بقية ضحكه مع استغفار. وبدا لي نبع الماء خلف هذا الجبل. فأطبقت كتابي ونحيته. هذا الرجل الضخم إنما كان غلافا إسفنجيا مثل تلك الدمى التي تلبسها فرق السيرك والأراجوز. أما ماخلف ذلك فقد كان طفلا وديعا بريئا طيبا. حكى لي كل شيء عنه. بلغ حد البكاء. كما بلغ حد الضحك. كان يجمع الدعاء مع التلعين والاستغفار مع الشتائم. حدثني عن كل شيء من دون رمح ولا سنان. سألته عن صاحبنا. فقال لا أعرفه! ولا ارتحت له! لكن الفكرة مريحة. يسرح قليلا ثم يقول: ايييو .. اعذ بالله .. أملط الشنب واللحية! 
أبوضاري .. أبوأسرار .. أبوجوري .. هذا العالم الموازي المائج بالأسرار. على بعد خطوة منا أو خطوتين. وصدق ابن الرومي: بعيد على قرب. قريب على بعد. أرأيت هذا الذي بعثر أم الدوائر ؟ لقد أصبح مدربا لها يوما ما. لا تضحك. حدثني هو نفسه بذلك. يقول ركب معي أربعة شباب كلهم يدخنون. وكانوا يدخنون في لحظة واحدة حتى لكأنني أتنفس في مدخنة مصنع. فقلت لهم ياشباب لو سمحتم دخنوا بالتناوب. يقول فأصبحوا يتناوبون التدخين حتى وصلنا :) باح لي بهمومه. وتحاورنا حولها. ضحكنا جميعا. ووصلنا على حافة البكاء حينا. ونصحني حول الكدادين ونصحته. وخطأني وخطأته. والسيارة تثب بنا. وتعلو وتهبط. والهندي يستمع ولاندري هل كان يعقل مانقول أم لا. حتى إذا وصلنا ماكنا نبغ ودعته بحرارة. ونفحني رقمه، وقال: سجل عندك "أبوسلطان"!