| ]

·        



      حدث ذلك في صيف ٢٠٠٢م. في شارع مزدحم من العاصمة الكينية نيروبي، لقد كانت ورطة من ذلك النوع المشبع برائحة الكربون. وكان حدثا بشعا، غريبا، مقرفا، ومضحكا في الوقت نفسه. ولقد قلت لكم من قبل إن الورطة التي تصنعها بيديك تجعلك تضحك رغما عن كل شيء. كثيرون ربما يستنكرون هذه الحادثة، وأنا لا ألومهم، أما الطيبون منهم فهم الذين يضمرون في دواخلهم الشك، ولأنهم يبجلونك فهم يكرمونك بهز رؤوسهم، ويكتفون بالصمت، وبمثل هذا حصلت موافقة عجيبة، بعد أكثر من عشر سنوات مما وقع لنا هناك، دعوني أرويها لكم قبل أن ننتقل إلى ذلك السوق. بعد ذلك الصيف بعشر سنوات، وتحديدا في عام ٢٠١٣، كنا في دبي، في ضيافة صديقنا الشيخ أبوحميد، رحمه الله، وأنا سائلكم أن تغمروه بدعوتكم، فهو رجل ذو قلب طيب يرغمك على حبه، وقد تلقيت خبر وفاته قبل شهر من اليوم ببالغ الأسى والحزن، وهذا شيء قليل من حقه علي، رحمه الله ورفع درجاته. كنا في ضيافته، وكان ابنه خالد "أبوراشد" منشغلا بالضيافة، يدخل ويطلع، أخذتنا الأحاديث هاهنا وهاهنا، أبوحميد، وأبوعلي، وأنا، جعل يسامرنا بأعجب ماحدث له في ترحاله الطويل، فقد بدأ حياته متاجرا على ظهور السفن، رفقة بحارته، يتجول بين السواحل، ويخوض البحار. وفي لحظة، أخذتُ زمام الحديث، ورويت لهم تلك الحادثة، كنت كلما تعمقت بالقصة تنفرج أساريره مبتسما، حتى إذا فرغت، نادى ابنه خالد، وقال له: تعال واسمع، فقد ساق الله من يشهد لي، فمن سنوات بعيدة وقع لي مثل ماوقع لكم تماما، وكنت أقصها على الناس وهم يتعجبون غير مصدقين. فمالذي حدث؟ نزلنا في مطار نيروبي بكورا، كان الهواء رطبا برائحة المطر والعشب المبلل، ظل المطر ينهمر ليلا، حتى إذا أسفر الصبح تزايلت الغيوم، فهي تُظل ولا تُظل، مثل حبيب يترقب حبيبه من بعيد، كأنما كانت تهيئ لهم الأرض طوال الليل، فيخرجون وقد توقف المطر، واغتسلت، وأخذت زخرفها، وازينت. وحتى نرمم ذواتنا من وعثاء السفر، أخذنا مضاجعنا في النُّزل، على أن يعود إلينا السائق عصرا. في المساء كنا داخل قمرة جيب التويوتا ٨٨ الأزرق، نحن الثلاثة، ورابعنا السائق صلاح، ذلك الشاب النحاسي النحيل، من البقية الباقية من ديار سبأ، وعاد. ومضوا يقهقهون هؤلاء الذين لايعلمون! شيئا فشيئا تنخرط سيارتنا في الزحام، السيارات الملونة، الباصات المحشوة، ضجيج، ودخان عوادم، ورائحة البترول، كما لو كنت في الطريق إلى رمي الجمرات. الأفارقة الكينيون وهم يمشون يلقون أيديهم، ويهزون رؤوسهم بإيقاع، كأنما يزاولون دورهم داخل نوتة موسيقية، تماما كما يمشي بوقبا. كان الجو لذيذا. هذه اللقطات الشعبية الصاخبة المكتضة، لذيذة، الوجوه، والألوان، والصور، والأصوات، حتى ذلك الرجل الأسمر في لوحة الدعاية الكبيرة أعلى العمارات كان يشرب الكولا وهو يبتسم. كان الشعور غامرا. وهو شعور لازلت أتذوقه في كل بلد جديد. غير أن ذلك لم يدم طويلا. فجأة، التفت إلينا السائق وقال: أقفلوا الأبواب، وأحكموا إغلاق النوافذ! - ما السبب ياصلاح؟ - الوضع هنا غير آمن! - ماالذي يمكن أن يحدث مثلا؟ .. هل يسرقونك مباشرة؟ - نعم، قد ينتشل منك شيئا، أو قد يهددك. - يهددك؟! .. يهددك داخل السوق؟! وأمام الناس؟ - نعم، قد يكون ذلك. تعرفون طنين الورطة أليس كذلك؟ ذلك الطنين في الأذن، كأنك متوسد عداد كهرباء. استدركنا: - يهددك بالسلاح وأمام الجميع؟ - لا، قد لايهددك بالسلاح. صمت صلاح قليلا، ثم قال بخجل: قد يهددك بأي شي، أي شيء قذر مثلا. - مثل ماذا؟ صمت قليلا، وخرجت الكلمات من أقصى حلقه متعثرة، مبعثرة. قال: يعني.. ، يعني مثلا، قد يهددك برمي شيء من قذره عليك! - ماذاا؟!! .. شنوا هذا ياصلاح؟ شنوا هذا؟ هل أنت جاد؟ هز رأسه مبتسما وقال جازما: نعم. الحق أقول لكم، لم يعجبنا كلامه، لم نصدقه، ماهذا الرجل الذي يحاول أن يثير اهتمامنا له بالكذب! يحدث أن يختلق المرشدون السياحيون الأكاذيب والمبالغات ليضفوا على بلدانهم جاذبية من نوع معين. ولكن إلى هذا الحد؟! لا. إنها مبالغة كبيرة، هذا الجمل الضخم لايدخل في سم الخياط. لم نقتنع، قررت أنه يكذب، وكذلك قرر صاحباي، كان اتفاقا صامتا، حتى ذلك الحين. كنا منهمكين بالدهشة ونحن نقلب أبصارنا من خلف زجاج النوافذ، أبواب السيارة مقفلة، النوافذ محكمة، سوى من عشر سنتمترات في نافذة السائق صلاح، تركها مفتوحة للهواء، أو ربما نسيها، لأنه يعرف أنه يكذب، وأنه لن يحدث شيء. قطعنا مسافة ليست قصيرة في عمق السوق، وفي لحظة مشوشة، متداخلة، سريعة، قفز ذلك الشاب الأفريقي فجأة من تحت نافذة صلاح، أسمر، رأسه كأنه زبيبة، ترك الوسخ على أطرافه كدرة قاتمة شهباء، يلبس جاكيتا لونه بيج، غير أنه أصبح رماديا، مسودّ الأطراف، مليء بخرائط الشوارعية والابتذال. في لحظات خاطفة، قبض على ماتبقى من نافذة صلاح بيده اليسرى، ثم أخرج يده اليمنى وكانت مندسة في كم جاكيته، وقد ملأها من سلاحه القذر! وجعل يهدد بإلقائه في حجر صلاح ويصيح مرددا: توو هاندرد شلن .. توووو هاندرد شلن. انخفض صلاح مبتعدا عنه، وجعل يدافعه ليغلق النافذة، ولكن دون جدوى. أشبه بكابوس مزعج تفزع منه وأنت متأخر عن موعد مهم، طنين عداد الكهرباء يكاد ينفجر، أشباح من الجن يمرقون، دبكة من الهنود الحمر ونحن مكتفون في الوسط، صاح بنا صلاح: هل معكم شيء؟ أعطووه. أسرعنا إلى جيوبنا وجعلنا نخرج الشلن والشلنين والعشرة والمئة، وقذفنا بها في حجر صلاح. لملمها عجلا ورماها له فتساقط بعضها على الأرض، هبط ليجمعها وكانت فرصة لإغلاق النافذة. وحين نهض ضرب النافذة بكل قوته وهرب! خيمت علينا كآبة طعمها مر، كنا لا ندري ماهي ردة الفعل المناسبة! نضحك؟ أو نحزن؟ أو نصمت؟ أو نتكلم؟ لقد كان مبلغ الارتكاس هذا أدنى بكثير مما كنا نتخيله. أخذنا نفسا عميقا، عميقا جدا، وطلبنا من صلاح أن يعود بنا للنزل، النوتة الموسيقية في مشي الكينيين أصبحت نشازا مزعجا، الرجل الأسمر الذي يشرب الكولا في اللوحة الدعائية صار مقطبا، فجأة اختفت تلك الألوان الفاقعة من السيارات، والجدران، والقمصان، سوى من لون واحد هو اللون الرمادي. لقد كرهنا شيئا لا ندري ماهو بالتحديد. واحتشد الكربون الخانق في الرئتين، كان هذا في يومنا الأول، ونحن لم نعتد على مثل هذا أبدا، ولسنا بجاهزية لنكون متحفزين على الدوام، وماجئنا لهذا، وأمامنا فترة سفر ليست بالقصيرة لم نرد لها أن تتحول إلى شبه منفى. وأصبحنا كلما ركبنا مع سائق أحكمنا إغلاق كل شيء، ونتلفت مثل أرانب حذرة، أذعرها الفزع. كان ذلك دون أن يصيبنا شيء بعد تلك الحادثة، طوال تلك الأيام، حتى وقع لنا موقف آخر في اليوم الذي سبق يوم المغادرة. لعله يحين وقت حكايته في يوم لاحق بإذن الله.