| ]



عندما كنت صغيرا ودعنا أخي مسافرا إلى منطقة أخرى ..
كان الوقت صباحا ..
ولم يكن خط الهاتف قد وصل إلى الحي الذي نسكنه ..
وفي المساء ..



وقبل أن أغمض عيني بعد يوم مليء بالعبث الطفولي سمعنا طرقا عنيفا على الباب !!
لم يكن أبي في البيت .. ولا أحد من أخوتي الكبار ..
وساد شيء من الاستغراب حيال هذا الطرق الغريب!!
اللهم لاطارق يطرق إلا بخير ..
ذهبنا باتجاه الباب .. وعندما اقتربنا منه .. سألتْ أختي بصوت خفيض : من ؟
وجاء الصوت من خلف الباب لابن جارنا يخبرنا بوصول أخي بسلام وأن أخي قد اتصل به طالبا منه أن يخبرنا بذلك !
الحمدلله على السلامة ..
هذه الحادثة بعيدة جدا من الآن.. بما قد يصل إلى ثلاثة عقود تقريبا ..
وصل الهاتف بعد عناء .. حينها ربما كان يباع رقم خط الهاتف الثابت بالآلاف !!
إي والله ..
لا .. لاتتعجبوا فهناك ماهو أعجب ..
عندما تكون مسافرا إلى منطقة بعيدة عن أهلك فلا بد أن تقطع مشوارا طويلا كي تتصل بهم .. تبحث عمن يصرف لك الريالات الورقية التي معك إلى ريالات حديدية أو أنصاف ريالات .. ثم تنطلق لتدخل في طابور طويل أمام كابينة المكالمات والتي تقف بكل صبر إلى جانب الطريق .. ثم بعد ذلك تصف هذه العملات الحديدية فوق الكابينة .. وترفع السماعة بسلكها الحديدي الغليظ إلى أذنك .. وحينما تبدأ الاتصال يسقط واحد من هذه الريالات الحديدية داخل الكابينة فيحدث جرسا حينما يصطدم بأخوته الذين في الداخل !!
فتضع غيره بدلا عنه في طابور الريالات .. وهكذا حتى تنتهي من اتصالك !!
هذا مع أن الذين خلفك في الطابور يسمعون كلامك .. ويعرفون أخبارك .. حيث الاتصال في الهواء الطلق !!
وكم انزعجت آذاننا من وافد يكون قبلنا مباشرة في الطابور فيصيح وهو متشبث بالكابينة : ألووووو ... ألووووو .. حمدي ؟؟.. عامل إيه ياحمدي ؟ وحشتني ياحمدي ؟؟
ثم تطور الأمر ..
وسمعنا أن هناك جهازا جديدا اسمه ( بيجر ) !!
- وماهو البيجر ؟
- البيجر _ الله يطول عمرك _ جهاز يبين رقم من اتصل بك .. يعني: يدق هو رقم البيجر فتذهب أنت بدورك وتبحث عن هاتف لتتصل عليه ..
- أووه .. والله حركة !!
وانتشر البيجر شيئا فشيئا .. حتى اشترى أحدهم رقم بيجر وجهازه بستة آلاف ريال !!
وآخر اشترى جهاز بيجر فقط بألف وخمسمائة ريال !!
إي والله ..
ما أحثكم عنه أيها الأعزاء كان قبل عشر سنوات من الآن فقط ..
أنا معكم أن هذا شيء عجيب .. ولكني لم آتكم بشيء من غير الواقع ..
لا .. وكثير ممن يقتنون البيجر يعلقونه في جيوبهم افتخارا !! .. أو يعلقون طرف سلسلته في ظاهر الجيب !!
لاتضحك ..
شر البلية مايضحك ..

ولكن أمر الكبائن قد تطور !!
فأصبحت هناك كبائن تعمل بالبطاقة .. وكل بطاقة بقيمة معينة .. تدخل البطاقة في الكابينة ثم تتصل والكابينة تخرم في البطاقة بما يتناسب مع وقت اتصالك ..

ثم تطور الأمر..
فأصبحت هناك محلات خاصة بالاتصال بحيث يضع غرفا صغيرة معزولة بالخشب أو الألمنيوم وفي كل غرفة هاتف تتصل به ثم تدفع الرسوم لدى موظف الاستقبال ..
و بعض الناس كان يذهب في التطور بعيدا ..
فيشترى جهاز الهاتف الهوائي ويضعه في البيت ويرفع له عمودا طويلا كي يتصل به هوائيا في كل مكان .. بما لايتجاوز عددا من الكيلومترات إلا أن ترفعه بشكل بارز .. ولكنك ستحتاج معه إلى جيب كبير إضافي في ثوبك حتى تحمل فيه هذا الجهاز !! بل وربما استمعت إلى مكالمات صاحبه وأنت تتنقل من موجة إلى أخرى في الراديو !!!

ثم تطور الأمر ..
فسمعنا عن ظهور الجوال ..
قالوا : من أراد الإشتراك بالجوال فعليه أن يدفع عشرة آلاف ريال رسوما للتأسيس فقط !!
_ عشرة آلاف ؟
_ نعم .. عشرة آلاف !!!
فاشترك فيه البعض ..
ثم خفضت رسوم تأسيسه إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة ..
ثم خفض إلى ألف وخمسمائة ..
ثم أصبح بمائة ريال .. ثم أصبح مجانا !!
و جاء الانترنت .. واندلقت الفضائيات تضخ كل غريب ..
وتقاربت الديار ..
وصار الحدث الذي في المشرق يديره رجل في المغرب ..
ولو عطس رجل في المغرب لشمته الذي في المشرق ..
إنني حيثما تأملت هذه التطورات أقف مشدوها !!
قرون متطاولة .. كلها مرت على هيئة واحدة .. وعيشة واحدة ..
ثم وفي غضون نصف قرن .. يكون الجهاز الذي استعمل قبل عقد واحد قديما ومضحكا في نفس الوقت
صورة ابن جارنا وهو يخبرنا بوصول أخي في تلك الليلة .. وكابينة الاتصال بطابورها الطويل وقرقعة العملات الحديدية في داخلها .. والهاتف الثابت وصعوبة تأسيسه وارتفاع سعر الحصول عليه .. ثم البيجر .. إلى كثير مما لو استعرضته لضحكت منه حيال التطور الآن ..
ولربما ضحكنا على مافي أيدينا اليوم بما لاندري عم سيتمخض عنه الزمن الرقمي الجديد فيما بعد!!