| ]



في بدايات هذا القرن الهجري كانت أمي تلف رأسي بشماغ صغير تكوّره ثم تعقده بما لايمكن حله إلا بيدها هي ..
أرنبة أنفي لاتزال محمرة وباردة من الصقيع وقت الصباح ..


صدر ثوبي مرتفع و متماوج بفعل السحّاب البلاستيكي الغليظ للفانيلة الخضراء والتي تطل رقبتها من فوق ثوبي بشيء من اللامبالاة!!
هذه البدلة توزعها إدارة المدرسة في بداية كل عام على الطلاب مع جوزٍ من الحذاء ذي الشراع الأبيض والتي أحس بالضيق بينما تحشر أمي قدميّ داخلها وتوثقهما وثاقا غليظا ،
لاتزال في ذهني بعض صور تمر سريعة مثل لقطات فيلم قديم لكومتين إحداهما لملابس خضراء وحمراء وصفراء وزرقاء داخل مغلفات بلاستيكية بأرقام ومقاسات مختلفة والكومة الأخرى لأحذية ذات شراع أبيض بمواطيء خضراء كل فردتين منهما مربوطة بالأخرى بحبل إحداهما ، يخرج الطلاب حسب الفصول كما يخرجون الآن لاستلام الكتب ليختاروا مقاساتهم المناسبة من هاتين الكومتين !!
الطريق إلى المدرسة طويل ، والمدرسة التي تعلمت فيها الحروف الأولى كانت مبنى مستأجراً في مزرعة ريفية على أطراف بريدة نركب إليها حوض سيارة الجمس الأحمر بعدما يسقفه صاحبه بشراع يشده على الحديد المقوس على الحوض ، لقد كان شراعا يغازل البرد في الشتاء ويجلب الحر في الصيف !! ،
كنا نسمي ذلك النقل ( القرّاية ) وهو اسم التقطناه من أفواه كبار السن حيث يكانوا يسمونه هكذا ربما لأنه متعهد بنقل الذين يتعلمون القراءة ، ولكن ذلك الاسم علق في ذهني لذلك اللون من السيارات سنين عددا .. حتى في غير مجال القراءة !!
المدرسة كانت في حقيقتها منزلا ريفيا في مزرعة نامية ، جدول من الماء الرقراق يشق ساحتها ليوصل الماء من طرف المزرعة إلى طرفها الآخر بينما تحف به أشجار الكركديه(الغجر) والسدر(العبري) ، ولقد كانتا ذات جنى دانٍ لكل طالب ، هذا الجدول يتصاعد منه بخار الماء الدافيء في فصل الشتاء حتى يشكل خيطا ضبابيا أبيضا في ساحة المدرسة ...
صدقوني لم تكن تلك المدرسة في غوطة دمشق ولم يكن ذلك الجدول بَردى !!
ولقد قال ابن الرومي يوما في لحظة تذكر :
وحبب أوطان الرجال إليهمُ ** ملاعب قضاها الشباب هنالك
إلى جانب باب المدرسة بركة ماء تغري في وقت الصيف للسباحة .. وهو الذي كان يحصل بالفعل .. فلقد كان ابن صاحب المزرعة - أحد طلاب المدرسة - ينزع ثيابه وقت الفسحة ويستعرض مهاراته أمام طلاب المدرسة وهم متجمهرون حول البركة فإذا رن الجرس لبس ثيابه ودخل إلى فصله !! ..
ولكم أن تتخيلوا صورة طالبٍ في المرحلة الإبتدائية يستعرض مهاراته أمام زملائه ..
وأما وقت الفسحة في فصل الشتاء فإنك سترى الطلاب أوزاعا على النفود الذي يحيط بالمدرسة من جهتين .. يتناولون إفطارهم عليه كما لو كانوا في رحلة برية .. لقد ذهبت تلك المعالم لمدرستي الأولى تحت أقدام الحضارة ..
إنك لن تر الآن من كل ماحدثتك به سوى طرف قليل من المزرعة أما مبنى المدرسة وما يحيط به فقد اندثر تحت طريق الملك فهد ..
ولكنه لم يندثر في رؤوس طلابها والله المستعان


.


.


.