| ]



سأتحدث إليكم قليلا وربما أطيل.

كثيرا مايأخذني التأمل في مفهوم العبادة، ومعنى التعبد. أتأمل حكمة الشرع، وأتأمل أفعال الناس، يمكنني وضع عنوان عريض لهذه الخاطرة فأقول " تتنوع العبادات بتنوع الطبائع والأحوال "

حينما خلق الله الإنسان بطبائع مختلفة، جعل عبادته أشمل من أن يحكمها رسم معين، فمن الممكن أن يتقلب الإنسان في عبادة ربه وهو يعيش حياته العادية، إذا أحضر نيته، وعرف شمولية العبادة. ( أما أنا فأنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني)

يشدني طويلا حديث ( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ) وإني لأكاد أسمع جلبتهم وهم يمهدون الظل للصائمين، ويهريقون قرب الماء تجهيزا لهم. تأمل. هؤلاء صائمون. وهؤلاء مفطرون. لكنهم يخدمون. ويبذلون النفع.
فلو صام الجميع لانقطع الجميع، ولكنها عبادات متعددة، تتسع لطبائع متنوعة. وشرع عظيم، ورب حكيم.

سافرنا مرة لعمل فأجهدنا الطريق، فأخذنا بالرخصة وأفطرنا، وحينما شربنا الماء البارد خشعت قلوبنا لهذه الرحمة والسعة في ديننا العظيم، فتعبدنا لله بالرخصة، كما تعبدنا له بالعزيمة.


عندما تتأمل أركان الإسلام تجدها متنوعة، فالشهادتان اعتقاد وقول، والزكاة بذل مال، والصيام إمساك عن الشهوات، والحج أعمال مخصوصة في مكان مخصوص، والصلاة يومية لأنها تشملها كلها، فهي قول واعتقاد، وأفعال مخصوصة، وترك شهوة، وهي في الوجه المقابل للزكاة بذل وقت يمكن التكسب فيه (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)

ثمة أقوام جبلوا على هيئة ساكنة هادئة يجدون أنفسهم في عبادات التأمل والخلوة والاعتكاف، وآخرون جبلوا على الحركة وعدم المكوث يجدون أنفسهم في الحج وأعماله أو في خدمة الآخرين وبذل المعروف لهم. ومنهم من ليس في هذا ولا هذا، ولكن أنفسهم سخية في سح المال في وجوه البر. ومنهم من يمشي بين الناس بالخلق العظيم، والابتسامة، وسلامة الصدر.
وتلك عبادة عظيمة لو كنتم تعلمون.

أما الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج عليكم رجل من هذا الباب هو من أهل الجنة. فقد كان شيخا ليس بكثير قيام ولا صلاة. إنما كانت علامته الفارقة أنه ينام سليم الصدر من وحر الغل للآخرين. وإذا تعار من الليل ذكر ربه. وأي رصيد أعظم من أن يدخل في قول الله تعالى ( إلا من أتى الله بقلب سليم )

لقد كان خالد بن الوليد يقود الجيوش ولم يرو كثيرا من الأحاديث، وكان أبوهريرة يروي الأحاديث ولم يقد الجيوش، وماأكثر عبدالرحمن بن عوف من هذا ولا هذا ولكنه كان يتجر بالمال، وينفقه في سبيل الله، وكل في عبادتهم يسبحون. رضي الله عنهم أجمعين

ولما كتب أحدهم للإمام مالك ينكر عليه اشتغاله بالعلم عن العبادة أجابه إجابة عالم ملئ حكمة وفقها، حتى لقد أصبحت إجابته قاعدة ونبراسا يقول:
"إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصلاة، وآخر فتح له في الجهاد.
ونشر العلم من أفضل أعمال البر، ,وقد رضيت بما فتح لي فيه,وما أظن ما أنا فيه دون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر"

يحدثني أحدهم أنه دخل على رجل وكان جالسا يقرأ ورده في مسجد فسلم عليه فلم يرد عليه السلام! إنما مد يده على هيئة من يقول: قف وانتظر حتى أفرغ من الذكر!
وهذا جهل منه في مفهوم العبادة عظيم. وهي صورة قد تتعدد على هيئات وأحوال مختلفة. وقد يسوقنا ذلك إلى سؤال مهم هو: ماهي أفضل العبادات؟


والإجابة عن هذا تذهب لاتجاهين: حال الشخص، والحالة التي هو فيها.
عندما كان الصحابي يسأل النبي عليه الصلاة والسلام ( أي العمل الأفضل؟ ) كانت إجابته تختلف من رجل إلى آخر، وقد ذكر العلماء بأنه كان يجيب كل سائل بما يصلح له، وحين سأله شاب المضي للجهاد سأله: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد.
وقد قص علينا قصة جريج وتردده في الموازنة بين صلاته وبين أمه. وأن ثمة عوارض تعرض للعبادات فتحول واجباتها إلى ماهو أوجب منها. ذلك وإني لأقف طويلا عند مرونة الشرع لهذا التحول لدرجة تأخير الصلاة إذا حضر الطعام. لأن مراعاة العبادة أولى من مراعاة محلها.

وحين تضيع بوصلة العبادة، ويعوج الفقه، تحدث مفارقة مشوهة، وازدواجية سقيمة، فربما رأيت من يحفر بئرا في بلاد بعيدة وهو يماطل أجيره أجرته، أو من يختم كل ثلاث ليال وقد عضل بناته تكسبا، أو من يعمر المساجد وهو يمنع الماعون، أو يمتنع عن فتح طريق ينفع المسلمين، أو مؤذنا يعتكف في مسجد بعيد ويترك الأذان في مسجده. أو يسافر للعمرة تاركا بر أم أو أب بحاجة إلى خدمته،  أو موظفا ينشغل بقراءة القرآن مغلقا بابه عن المراجعين. وقد تجد من يدس المال في يد عامل النظافة بينما هو ممن يلقي الأذى في الطريق، أو الأماكن العامة!
وقد ذكر الله هذا الازدواج في كتابه فقال ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى )
ألا وإنه لايتفطن لذلك إلا من أراد الله به خيرا، وآتاه الحكمة.
و ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا )

هذا وإن القلب ليوجل وهو يقرأ في الآثار عن نتائج ستكون مفزعة حين تنكشف يوم القيامة، عن أناس يأتون بأعمال كجبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثورا، إذ شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا. وعن الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، قارئ القرآن، والمنفق، والمجاهد. وعن بغي دخلت الجنة بكلب سقته، وعن رجل أخّر غصن شوك، فغفر الله له، فأدخله الجنة.

وإنك حين تمعن النظر في نهي الشرع عن بعض العبادات في بعض الأوقات لتكاد ترى حكمة التحول إلى عبادات أخر، عبادات غير الصلاة النافلة وقت العصر، وعبادات غير الصيام أيام العيد، فتتعبد لله بالأكل والشرب وذكر الله، وتتعبد له بالتزاور وصلة الرحم، وتتعبد بالسلام والدعاء والتبسم والمؤالفة.

ولابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم ( مدارج السالكين ) بسط جميل عن الخلاف في أفضل العبادة. يرجح فيه أن أفضل العبادة "العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته"
ولعلي أدرج كلامه كاملا لأهميته.

" الصنف الرابع، قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهوأفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه، فهذا هو المتحقق ب " إياك نعبد وإياك نستعين " حقا، القائم بهما صدقا، ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر مجرد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فواها له! ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه! ! والله المستعان، وعليه التكلان. "

انتهى كلامه رحمه الله، وقد نقلته بطوله لأهميته، فهو قاعدة، وفيصل، وميزان.

وذلك كله مجموع في وصية محمد عليه الصلاة والسلام لمعاذ أن لايدع دبر كل صلاة أن يقول "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"

كما يزداد إعجابك بفقه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريف العبادة وأنها "اسم جامع لكل مايحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة"

والله الموفق.