| ]





( 1 )


القدوم



منارات الحرم الشاهقة .. والكعبة السمراء .. والطائفون بلباسهم الأبيض الجميل .. وإمام الحرم ذو البحة المميزة وهو يدعو بصوت مرتفع .. والحمام الذي يحلق هنا وهناك بكل أمان .. وديار المهاجرين والأنصار .. وخطى الصحابة .. والحرم المدني وهو يحتضن الجسد الشريف ..
والروضة الخضراء ..
آه .. ماأطيبك ياأرض السعودية ؟!
ضربات قلبي تزداد والطائرة تميل نحو المدرج ..

البيوت المتناثرة في الأرض صارت تقترب شيئا فشيئا ..
وفيما كان الملاح يلقي تحية التهنئة بالوصول بلغة عربية لايفهمها أكثر المسافرين على متن هذه الرحلة كان الركاب يتحفزون من مقاعدهم ويعلقون حقائبهم على أكتافهم ..
وضعت قدمي ولأول مرة في أرض الحرمين الشريفين ..
كأن شعاعا يضيء من كل اتجاه .. أو هكذا خيل إلي ..
أمي وأبي وأخوتي كانوا قد حملوني كثيرا من السلام لهذه البقاع .. وودعوني وهم يبكون شوقا وعجزا ..
عندما كنت صغيرا .. صغيرا جدا .. رأيت موقفا لم أفهمه جيدا .. ولكنه ظل يرن في أذني بجرس تبعثه علا مة استفهام معلقة ..
في قريتنا .. إحدى القرى القريبة من كيرلا .. قام الأهل بصنع حفلة استقبال كبيرة لجارنا وزوجته .. شيخ ذو سحنة سمراء .. معكوف الظهر .. وعلى ذقنه شعر أبيض تزينه ابتسامة واثقة .. بينما كان رأسه محلوقا بالكامل !! .. وزوجته العجوز وهي تلف شالا أبيضا أنيقا على وجهها البرئ الطاهر .. بينما تتدلى خصلات من شعرها الأحمر على كتفها ..
كانوا يقولون إنهما قدما من مكة حجاجا .. ومن زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ..
كان اسم مكة في رأسي مرتبطا بالتاريخ وبالقصص التي يقصها علينا المعلمون.. لم أكن أدري بأنها عامرة حتى هذه الساعة ..
حتى إنني كنت أظن هذه الحفلة فرحا بحياة هذين العجوزين بعد عودتهما من التاريخ !!
- شوف صديق..أنت في روه وين؟ .. قيصومة .. كي..سو..مة ..
كان موضف الاستقدام في الرياض يرددها علي.. وهو يشير إلي باصبعه السبابة .. وينظر إلي نظرات تحذير أخير .. ثم يسألني ليعلم مدى حفظي لها :
- وين روه؟
فأقول بصعوبة ممزوجة بوجل وأنا أهز رأسي متفاعلا :
- كيسوم.. كيسوم ..
- كيييسووووومه ..
- كااايسوما .. كاااااااااايسوما ..
- كي.. سوومه .. مه ..
ثم نطقتها بعد عناء .. كي سو..مه .. كيسومه ..
عندما نطقتها لم يشجعني أو يبتسم لحسن نطقي لها وإنما التفت إلى الجالس بجانبي وراح يقول له :
أنت في روه أرطاوية .. أرتاوية .. أر .. تا .. وية ..
وصاحبي يردد وراءه كنت أردد في السر: كيسومة .. كيسومة ..
وعندما انتهى من صاحبي التفت إلي فجأة وقال لي وهو يشير بسبابته:
أنت وين روه ؟
غامت الدنيا في عيني.. والتصقت الحروف ببعضها خائفة وقلت وأنا أرفع رأسي واثقا وأفتح عيني بكل ثقة :
- كيسومية ..
صاح في وجهي وهو يهز يده والزبد يتطاير من فمه : كيسومة .. كيسومة ..
انتهيت من بعض اجراءات مكتب الاستقدام ..
وانطلقت إلى الرحلة المتجهة إلى القيصومة ..
هناك حيث الكفيل ..



( 2 )


جسر




أشياء كثيرة كانت غريبة بالنسبة لي ..
السيارات الكثيرة جدا .. بعضها لايوجد داخلها سوى السائق فقط !
.. الذين يسيرون على أقدامهم في الطرقات قليلون جدا .. الدراجات النارية والهوائية أيضا ..
لم أكن متعودا على هذه الصور ..
الجوالبارد .. الأرض القاحلة .. الماء ..
سمعت أن السعودية ليس فيها فيضانات !
ومطرها شحيح .. وخضرتها قليلة ..
تفاجأت بالطرق الفسيحة .. وبتباعد مابين البيوت .. وبالقصور الكثيرة هنا وهناك .. بالسيارات الجديدة ..
تفاجأت بأخلاق الذين تعاملوا معي بأسلوب لم نتعلمه في المدرسة ولا في البيت ..
في المقعد الخلفي للسيارة النيسان كنت سابحا في خيال عريض حينما هصرني صوت الكفيل من مقعد السائق قائلا
- افتح ..
كان يشير إلى النافذة بجانبي ..
التفتُّ إلى النافذة .. ولكني لم أفهم ماذا يريد تحديدا !!..
هل يريدني أن أفتح النافذة ؟
الهواء بارد جدا .. والشتاء لايسمح لأحد بالمزاح معه في مثل هذه الصورة !!
أنا لاأدري لم جعلني أركب في المقعد الخلفي بينما لم يكن في المقعد الأمامي أحد !!
ثم لم أفهم السر في إلحاحه علي بأن أفتح النافذة ..
لذلك كله لم يدر بخلدي أنه يريد مني فتحها .. فالتفت إليه وأنا أهز رأسي وأبتسم وأقول : مافي ..
صاح في وجهي .. وكلمات غاضبة تتفجر بين شفتيه .. كان يشير إلى النافذة بيده وهو يخفضها إلى أسفل ثم يقبض يده إلى أنفه كمن يتأذى من رائحة كريهة !!
فتحتُ النافذة .. وواصل السير بعدما كور شماغه على وجهه و هو يتأفف بكلمات لاأفهمها ..
كان أسمر السحنة .. بدينا جدا .. له شارب غليظ وليس له لحية .. يهتم بشكله ولكنه ليس أنيقا .. عندما استقبلني في المطار كان يرتدي نظارة سوداء .. ناتئ الصدر .. يمشي بكل كبرياء .. لم يخلع نظارته إلا بعد وصولنا للسكن منتصف العشاء !
نعم .. كنت أكلت طعاما في الصباح مطبوخا بالثوم .. ودهنت شعري بزيت النارجيلة .. ولكن رائحته أيضا كانت عفنة جدا !
فمنذ ركوبي معه وأنا أشم رائحة صوف أغنام وملابس داخلية قذرة وثياب متشربة بالدخان ..
وضعت حقيبتي في غرفة سكنية صغيرة ملتصقة بحوش مهجور.. فيها أغراض مبعثرة ..
وفهمت من كلامه أنني سأنام هنا حتى صباح الغد لأنطلق إلى المكان الذي سأعمل فيه ..
كانت الغرفة سكنا لاثنين من العمال .. أحدهما من مومباي والآخر من بنجلاديش ..
فيها سريران وملابس لهما معلقة على مسامير في الجدار الاسمنتي الناضح بروائح الطعام المختلفة ..
الفجوة التي كانت بين حياتي المعتادة وحياتي في هذا المستقبل المجهول جعلتني محتاجا لأي قشة أتشبث بها ..
ولذلك فقد تعرفت عليهما في تلك الليلة .. وتحدثت معهما كثيرا .. وارتحت إليهما .. واطمأنت نفسي شيئا قليلا ..
فهمت منهما أن هذا الكفيل سيذهب بي غدا إلى منطقة نائية وبعيدة في الصحراء .. وأنني سأسكن وحيدا في خيمة في العراء .. وأن عاملا قبلي هرب من هذا العمل بعد أن ذاق مرارات لاتوصف من البعد والشقاء وقسوة الكفيل ..
كنت متعبا من السفر ..
فنمت في تلك الغرفة نومة هانئة بانتظار الصباح ..
وبانتظار العالم المجهول أيضا ..



( 3 )


الصحراء




في الصباح ..
ناولني الكفيل كيسا فيه ثوب أسود وكوفية وشماغ ومعطف رمادي مهترئ .. وملابس داخلية بيضاء ..
قطعنا مسافة ساعة كاملة على الاسفلت الممتد جنوبا ثم انحدرنا يمينا ودخلنا في الصحراء ..
السيارة هي الأخرى تظهر حنقها في كل مرة على الصخور العنيدة والتعرجات الناتئة ..
ساعة أخرى قطعناها في الصحراء كانت أشد علي من السفر الطويل في الطرق المعبدة ..
والعالم المجهول الذي ينتظرني أيضا كان هو الآخر يخلق في صدري كثيرا من الأسى ..
ياااالله .. لطفك ياكريم ..
وظهرت مني تنهيدة بلا شعور ..
فرمقني الكفيل وقد ظللنا صامتين طوال الطريق ثم عاد إلى السير وهو يحدق في الأفق البعيد ..
بعد لأي وصلنا الخيمة .. في تل صغير .. يشرف على واد ممتد الأطراف .. فيه أشجار صغيرة شهباء مترامية .. ورمل أصفر بعيد ..
يظهر عليها أنها خيمة قديمة .. أو مستعملة .. وإلى جوارها كان هناك زريبة محاطة بسور حديدي ليس بالطويل مملوء بالغنم ذات شعر أسود منسدل ورأس أبيض .. ومن خلفها ناقلة ماء عجوز راقدة على التلة بكل ملل ..
حينما اقتربنا من الخيمة نبحنا كلب الحراسة الأصفر من طرف التلة .. ثم راح يدور حول السيارة وهو يبصبص بذيله بينما بدأت الأغنام بالنهوض وهي تثغي ثغاء السائل المسكين ..
- أبو الكلام ..
انطلقت نحوه داخل الخيمة ..
- جيب أغراض هنا ..
أخبرني أن هذا هو السكن الذي سأنام فيه على الدوام ..
ثم انطلقنا وقام بملء أحواض الماء أمامي ..
ثم أخرج الأغنام من الزريبة ..
وفي المساء شرح لي كيف أسوق الأغنام إلى زريبتها .. وأعطاني كشافا ضوئيا يعمل بالبطارية الصغيرة .. وأمرني أن أحمل صندوقا كرتونيا من السيارة إلى الخيمة .. وذكر لي أنه سيأتي قريبا .. ثم أدار محرك السيارة ومضى ..
كان الليل أكبر من هذه الصحراء الشاسعة .. وكان البرد يحتويهما جميعا .. وأنا واقف بين هذه الوجوه الثلاثة ..
رتبت الخيمة على عجل .. وقد كان الكشاف بالكاد يفي بما أريد ..
كان في الصندوق بعض أكياس خبز .. وبقايا من بصل وطماطم .. وكبريتان عليهما جواد يمتطي حصانا ..
العراء .. الليل .. الوحدة .. الشتاء .. والخيمة البالية !
أين ذهب خيال أمي وأبي في نوع السكن الذي سأنزل فيه ؟
هل جربت أن تنام وحيدا في صحراء لا تعرفها ؟ ... وحيدا ؟
لبست الثياب التي في الكيس وتمنيت لو كان معي مرآة لأشاهد صورتي باللباس السعودي !
الهواء الذي يتسرب من شقوق متفرقة ظل يطارد أطرافي ..
ووشوشة أسمعها خارج الخيمة ولاأعرف كنهها ! .. أو أن ذلك يخيل إلي ؟
كنت أرفع رأسي في الظلام وأنصت كأشد مايكون الإنصات .. فأسمع وشوشة من كل شيء ولكني لاأسمع شيئا !
سمعت نباح كلب بعيد .. بعيد جدا .. يأتي به الهواء تارة ويصرفه تارات أخرى ..
دائما ماتكون الليلة الأولى في كل حياة جديدة طويلة وغامضة ..
كنت مستبعدا أن أنام مع هذا الشعور ..
وقد لازمني هذا الشعور حتى بعدما أفقت على سماء زرقاء كنت أشاهدها من أحد الشقوق !!
وصوت أذان بعيد .. فرحت به فرحا شديدا ..
توضأت .. وأذنت .. وصليت الصبح ..
الصحراء تصبح جميلة جدا والمؤذن يصدح على ربواتها ..
انطلقت مع الأغنام في الصباح .. وتعرفت على الكلب .. كما تعرف علي هو الآخر .. ودرنا سويا في الأماكن القريبة .. ولكنني لم أشاهد أحدا !
الليل يأتي بالأصوات أكثر من النهار ..
لابأس ..
هناك مخلوقان عظيمان تبدوا عليهما القسوة .. ولكنهما أليفان جدا حينما يقتحم الإنسان أسرارهما : الصحراء والبحر
لقد وجدت في الصحراء أنسا .. وعشت مع الأغنام عيشة لاتوصف .. وألفت المكان .. وودت لو كنت أستطيع الاتصال بأهلي أو أن أوصل ذلك إليهم برسالة ..
صحيح أنهم كانوا يعدونني لأن أكون في مكان أفضل وعمل آخر إلا أنني راض عن هذا العمل الذي أقوم به الآن ..
يعكر صفو هذه الحياة زيارة الكفيل في كل مرة .. وأوامره العنترية الجوفاء .. وتسلطه الكبريائي ..
إلا أن زيارته كانت متقطعة حيث أنه ربما مكث أكثر من أسبوع في بعض الأحيان ..
في الأيام الأولى جاءني في الخيمة رجل مهيب الطلعة .. له لحية بيضاء وقورة .. ووجه واسع أبيض قلبت لونه الشمس إلى السمرة .. ومعه عامل هندي من كيرلا أيضا
الله عليك ياكيرلا .. الناس لايعرفون أنك كلمة قلبتها ألسنة الزمن من( خير الله )
عرفت أن هذا الشيخ له قطيع من الأغنام خلف التلة في آخر الوادي .. وأن (أكتر) يرعى الغنم لديه .. سعدت به .. وتحدثت معه كثيرا بينما كان الشيخ يتفقد الأغنام .. قال لي إن هذا الشيخ من أقارب كفيلي وأنه طيب جدا ..
عرفت الآن سر الأذان في تلك الليلة .. إنه صوت أكتر ..
ماأجمل هذا النوع من الصداقة في مثل هذه الظروف ..
وفي الصحراء أيضا صداقات تغوص في دقائق حد العمق ثم تتلاشى وكأنها طيف حلم ..
هناك سيارة بيضاء متجهة نحو الخيمة .. يتطاير غبارها في الأفق الممتد ..
يبدو أنها فارهة ..
الشمس تزول بعد أن أخذت وضعا رأسيا في السماء ..
نزل منها خمسة رجال سعوديون .. لهم لحى سوداء بعضها خفيف وبعضها كثيف .. أحدهم كان يرتدي لباسا رياضيا .. صافحوني جميعا !
وابتسموا لي .. وسألوني عن اسمي فقلت لهم : أبوالكلام
كانو يريدون تعبئة ماء من الناقلة وشراء خروف صغير
تبادلت معهم الحديث بصعوبة .. ولكنني كنت مطمئنا للحديث معهم .. كانوا يبتسمون معي .. ويلاطفونني .. ويبدأون حديثهم معي باسمي قائلين : شوف ياأبوالكلام ..
ملأوا أوانيهم بالماء وأخبرتهم أن الكفيل لا يسمح لي بالبيع من الأغنام .. وأشرت إليهم بالذهاب إلى قطيع أغنام كفيل أكتر .. سألوني عن مكانه .. وشرحت لهم متحمسا ..
تحدثوا فيما بينهم قليلا .. ثم التفتَ إليّ أحدهم وقال : أبو الكلام .. أنت مافيه مشكل روه معي أكتر ؟
قلت له وأنا في كامل سعادتي : مافيه مشكل ..
ركبت معهم إلى جانب الراكب في المقعد الأمامي ! ..
كانوا في الطريق يسألونني عن المطر .. متى نزل .. ويسألونني عن أسماء أماكن لاأعرفها حتى كنت- من حبي لهم ومحاولة مساعدتهم- متحمسا في توصيف أحد الأماكن بحسب فهمي للكلمة ولكنني تفاجأت ببرودتهم في تقبل الوصف مما جعلني أكتشف أن وصفي كان مدبرا جدا !
اشتروا خروفا من أكتر .. وربطته لهم .. ثم عدنا إلى الخيمة .. وقبل أن يذهبوا توضأوا من الماء وطلب مني أحدهم أن أؤذن .. فأذنت وأنا أحاول إبداء أجمل مايكون في حنجرتي .. وصلوا الظهر والعصر ..
ركبوا في السيارة وأنا واقف أودعهم .. تهامسوا قليلا ..
ثم نزل أحدهم وفتح الباب الخلفي وجعل يجهز شيئا ما .. ثم ناداني : أبوالكلام ..
انطلقت نحوه مسرعا فناولني كرتونا فيه أطعمة متنوعة .. وكيسا فيه لحاف نظيف .. ونفحني من جيبه ورقة نقدية لاأعرف مقدارها ..
ثم ودعوني وانطلقوا ..
لقد أحببتهم من قلبي ..
كما كرهت أولئك الشباب الذين جاءوا مرة على سيارة نيسان شبيهة بسيارة الكفيل وقد ركب بعضهم في صندوقها وهم يسيرون بهيستيرية قبيحة .. وحينما حاذوني أنا وقطيع الأغنام عطف السائق مقودها نحو القطيع وأسرع وهو يصدر طنينا مزعجا من بوق سيارته حتى تبعثرت الأغنام وانطلقت في كل اتجاه ..
ثم ولوا وهم يضحكون !
لقد كنت في تلك الصحراء بعيدا عن الشر ..
ولكن بعض الناس ينقل شره معه حتى إلى الصحراء !
كانت تلك الصور تتكرر في الشتاء فقط .. وتزداد حينما يسقط المطر وينبت الربيع
مكثت في عملي هذا أشهرا طويلة ..
حتى جاءت ليلة أن بدأ الكلب ينبح نباحا متزايدا بشكل يوحي بخطر قريب ..



( 4 )


الشر >> خير




بدأ الكلب ينبح نباحا متزايدا بشكل يوحي بخطر قريب ..
الصرصار الليلي يغني بلا مبالاة .. الهواء البارد جدا أسمعه يعوي وهو يتسلل عبر فتحات زريبة الأغنام الحديدية .. الأغنام هي الأخرى تصيح بصورة غير معتادة ..
استيقظت من نومي فزعا ..
ولكن من أصعب الأشياء أن تقوم من نومك مباشرة لتأدية جهد كبير مباغت ..
تذكرت لحظتها ماحصل لي في أحد الليالي ..
حينما توشحت السماء قبيل الغروب بوشاح من الغيم الأسود الكثيف ..
.. وأقبلت بعدها عاصفة سوداء كبيرة ..
كنت قد جمعت أمري وشددت وثاق الخيمة .. وألقيت نظرة أخيرة على زريبة الأغنام .. وبعد العشاء هبت العاصفة بقوة كفأت الشباك .. وفرقت الأغنام في كل اتجاه .. الكلب ينبح بدرجة قريبة من نباح هذه الليلة .. خرجت مسرعا وأنا أتلفع بمسفع بالكاد يحمي صدري من البرد .. الهواء الشديد لايرحم أحدا .. أسمع توسلات الأغنام .. ابن يصيح وأم تركض نحو صوته خلال الظلام الدامس والغبار .. الغبار كثيف جدا وأصوات استغاثات مؤثرة من
حيوانات بريئة يخالطها قعقعة جرس الخروف الرئيس وهو يركض بعشوائية أيضا .. لقد لاقيت عناءا كبيرا تلك الليلة .. تماما كما تُرسم لحظات العقدة في أفلام الكرتون .. تعثرت مرات كثيرة ببعض الأشجار .. وسقطت أخرى في منخفض كبير .. ولم أستطع لم شتات القطيع سوى لما هدأت الرياح وأدبر الليل جهة الغرب ..
حينها استطعت رؤيتها متفرقة وهي تحاول التجحر أسفل بعض التلال الصغيرة ..
ثم قمت بإحضارها واحدة .. واحدة ..
ولكن نباح الكلب هذه الليلة مختلف كثيرا ..
إنه ينذر بليلة ليلاء ..
في الظلام .. كنت أتحسس الكشاف الضوئي الصغير ..
أين هو ؟
الآن ..
أسمع طلق عيار ناري ..
لطفك ياالله ..
فجأة .. صاح الكلب متوجعا .. ثم خمد نباحه إلى الأبد .. وبدأت الأغنام تثغي ثغاء مستحثا ..
اللحظات الحرجة غالبا لها صراخ قوي .. ولكنه كامن في الصدر .. يخرج على هيئة زفير شديد !
ليس من الضروري الكشاف الآن .. أسرعت إلى الباب .. حللت الحبال .. وأخرجت رأسي لأنظر ..
ياه .. هذه الليلة مظلمة جدا ..
في لحظات سريعة .. دارت الدنيا أمام عيني إثر ضربة قوية على رأسي .. ثم التفّت يد ضخمة على عنقي .. جبذني صاحبها بقوة خارج الخيمة ..
كنت أحرك جسمي النحيل مقاوما ولكنني كنت مثل عصفور صغير بين يدي حيوان مفترس ..
بصعوبة بالغة استطعت معرفة أنهم ثلاثة رجال .. ملثمون ..
أوثقوني بحبل غليظ .. وأحكموا إغلاق فمي بقماش طويل .. وألقوني مكتفا وسط الخيمة ..
سمعت صوت سيارة تقترب ..
يبدو لي أنها ناقلة متوسطة الحجم ..
ثم سمعت صوت احتجاج الأغنام وهي تدفع قسرا نحو حوض السيارة .. ثم وهم يسرعون الهرب من المكان ..
حاولت فك الأغلال .. ولكن دون جدوى ..
أكتر .. أين أنت ؟ .. ليتك تنجدني الآن ..
كنت متوقعا أنه سيأتي .. صوت الطلق الناري كان قويا .. والليل بارع في نقل الأصوات كما تعلمون ..
الحقيقة أن منظري كان محزنا جدا ..
وحيد في هذا العراء .. في هذا الليل الجاثم بلا شعور.. جسمي النحيل الملتوي الآن مثل صورة جنين في رحم وهو ملقى داخل خيمة نائية .. حتى النشيج الذي حاولت من خلاله التنفيس عن الأسى كان صعبا جدا بسبب القماش المشدود على فمي بقوة ..
انكب علي أكتر يفك وثاقي بكل تفاعل ..
في الصباح .. عندما افتقدني في المرعى .. ساق أغنامه نحو خيمتي ..
ألا ماألأم القلوب الظالمة ..
تحول وجه الكفيل إلى وجه شيطان وهو يقف أمامي غاضبا .. عيناه تقذفان شررا .. وحول شفتيه السوداوين يتراكم زبد أبيض قبيح ..
لقد نهرني الكفيل بشدة وقام بضربي كما لو كنت أنا الفاعل ..
ثم عاقبني بأن حرمني من راتب الأشهر الماضية كلها !!
لم يكن لدي عمل الآن .. فنقلني إلى قريبه الرجل الطيب ..
بقيت تلك الليلة الرهيبة وعقاب الكفيل القاسي علقما أتجرع مرارته أيامي تلك .. لولا لطف الله بي ثم تسلية أكتر وتطييبه لخاطري مرة بعد أخرى ..
الأرض لا تسع فرحتي حينما زف إلي أكتر خبر حرص كفيله الطيب على أن ينقلني إلى كفالته ..
وكان ذلك بالفعل ..
ولكن عاملين اثنين في مرعى واحد يعد نوعا من الخطأ ..
ولذا فقد تقرر نقلي إلى مكان آخر ..
لقد بكينا كثيرا أكتر وأنا ونحن نودع بعضنا ..
ومن مفارقات الصحراء الشاسعة أنها تقرب القلوب بشكل غريب ..
بخلاف ما يحدث داخل المدن والقرى ..
وهناك ..
في القرية ..
كان القدر يجري على نحو سأنبئكم بخبره في حينه إن شاء الله ..



( 5 )


وحيد .. في المدن الصاخبة





لم تكن قرية بالمعنى الذي بنيته في رأسي ..
لكم أن تتصوروا مساحتها وهي تحتوي على ماينيف على عشرين منارة .. اثنتان منهما لجامعين كبيرين ..
ومدرسة كبيرة جدا فيها ثلاث مراحل تعليمية ..
خلف ورشة حدادة .. هناك حوش صغير .. فيه غرفتان من الطوب الاسمنتي ..
الهواء يدخل من غير مااستئذان عبر الشقوق .. والشمس كذلك في بعض الأحيان .. غير أنها أفضل بكثير من السكن في خيمة في العراء .. أليس كذلك ؟
من داخل الغرف تهجم على أنفك روائح الثوم والفلفل والبهارات الهندية الحارة .. وزيت النارجيل أيضا
مابين الغرفة والطرف الآخر من الحوش يمتد حبل غسيل طويل عليه ملابس معلقة مابين فانيلة مقلمة الأكمام وإزار ذي خطوط مزركشة ومناشف بألون مختلفة ..
شيئا فشيئا استطعت التأقلم مع العمال هنا .. ثلاثة هنود وخمسة بنجلاديشيين ..
تقررأن يكون سريري في غرفة الهنود الثلاثة .. كانوا يخرجون لأعمالهم في الورشة والبقالة القريبة .. عرفت أول قدومي إليهم أن اثنين منهم من مومباي .. والثالث من أحمدأباد ..
لم أكن مرتاحا لهم على أية حال .. لديهم سر يخفونه عني .. يتهامسون كثيرا .. رأيت قرب السكن مرة شاب يفاوض أحدهم في شيء ما وكأني لمحته وهو يمد له ورقة نقدية كبيرة ! .. تحت أسرتهم صناديق أشبه ماتكون بالألغاز .. ولذا فقد كنت حريصا على أن لاأعود إلى السكن إلا وقت النوم فقط ..
في استراحة الكفيل والتي تبعد عن السكن خمسة أكيال كنت أذهب من بعد العصر ولا أعود إلا في المساء ..
ولكي لاأبقى فارغا في الصباح تعاقد الكفيل مع مدير المدرسة الابتدائية في القرية لأكون لديه عاملا إضافيا للبنجلاديشي الموكل بأعمالها ..
الطريق إلى الاستراحة طويل على الأقدام .. كنت أحث الخطى إليها وأنا أضع يدي خلف ظهري .. سالكا الطريق الاسفلتي المتعرج ..
في آخر الشهر .. اشترى لي الكفيل دراجة هوائية مستعملة .. سلمها إلي في الاستراحة وهويقول : أبوالكلام .. هذا سيكل علشان طريق في طويل .. بس شوف .. مافي كلام نفر ثاني ان كفيل في يشتري .. مفهوم ؟
- هززت رأسي موافقا وفمي مفتوح حتى الآخر بابتسامة لم أستطع السيطرة عليها
فرحت بالدراجة ..
نعم ..
ولكن فرحتي بتعامل الكفيل وشعوره اللطيف تجاهي كان أكثر من ذلك .. الدراجات الهوائية في كل مكان .. ولكن هذا النوع من البشر نادر جدا ..
الآن .. أصبحت قريبا من الناس ..
ولكن قطيع الأغنام أحب إلي من بعض الناس ..
في المدرسة ..
كنت أجدف بالمكنسة ذات الشعر الطويل على البلاط بكل انسجام ..
حينما لكزني مع كتفي أحد المعلمين -على مايبدو - بصورة استهتارية ..
- كيف الهال صديق ؟
- هالهمد لله ..
وأخذ بيدي إلى طاولته في غرفة المدرسين وهو يقول .. تعال .. تعال ..
طويل .. ونحيل الجسم جدا .. وله رائحة عطر صارخة .. ثوبه ضيق .. وشماغه المرفوع فوق عقاله كبير بحيث يمكنه الاستغناء عن نصفه تقريبا ..
أخذ يفاوضني في غسيل سيارته .. كنت لاأفهم كثيرا من كلامه .. وأرفع رأسي وعيني في كل مرة مستفهما .. وحينما رآني بهذه الصورة أخذ يزاول علي مشهدا كوميديا أمام بعض زملائه في الغرفة .. يسألني بعض الأسئلة ثم ينفجر زملا ؤه بالضحك .. يهز رأسه محاكيا حركة رأسي ثم يخرج صوتا تقليديا قبيحا من أنفه : مافي مفهوم ؟
عيونه وعيون زملائه تلسعني ..
المشهد كان قاسيا بالنسبة لي ..
وما انتهى المشهد إلا بعدما أحس بأنه نزل من برجه العاجي كثيرا من الوقت !
ثم دفعني من كتفي وهو يقول : روه .. روه تنظيف .. رووه ..
ثم كيف سترون تعامل تلاميذه معي بعد ذلك ؟
في أحد الأيام .. وعندما خرجت من المدرسه .. كان في الطريق زمرة طلاب أعمارهم قريبة من البلوغ ..
كنت أسير على الدراجة بكل هدوء ..
استوقفوني ..
كل واحد منهم يريد أن يكون بطل المشهد ..
أحدهم يسأل : بكم فلوس هذا صديق ؟
آخر : أنا يبغى دورة صديق .. أنت في ينزل ..
كنت كلما حاولت السير .. سحبوا الدراجة من الخلف واستوقفوها ..
وحينما تجرأ أحدهم وأخذ بتلابيبي .. دفعته بشدة وأنا أصرخ في وجهه ..
وانفلتّ منهم بعد لأي .. وحاولت الإسراع ..
ولكنهم بدأوا يقذفونني بأحجار كبيرة .. وقنينات زجاجية تتكسر حولي وأنا أسرع الهرب منهم ..
فهل تلومونني بعد ذلك حينما أقول : إن القطيع أقرب إلي من بعض البشر ؟
في ليلة صيفية .. غادر الكفيل وأصحابه الإستراحة في هزيع متأخر من الليل ..
قمت بالتنظيف سريعا .. ثم ركبت الدراجة قافلا ..
الطريق المتعرج الضيق يضطرني للخروج عن الاسفلت كثيرا حينما تمر فيه أحد السيارات ..
كثيرون حينما يحاذونني يصدرون أصواتا مزعجة من أبواق سياراتهم ..
بعضهم يتعمد إزعاجي وإبعادي إلى التراب !
في تلك الليلة ..
أسمع خلفي صوت سيارة قادمة من بعيد .. مسرعة جدا ..
ظهري مشدود دائما وبلا شعور للسيارت القادمة من الخلف ..
ضوء سيارته متجه نحوي !!
يبدو أنه لم يشاهدني جيدا ..
ربما كان صاحبها نائما .. أو فاقدا للتركيز ..
عجلات سيارته تصرخ منذرة بخطر قريب ..
كل الصور تداعت سريعة أمام عيني ..
الأضواء .. الطريق .. الدراجة ..
الدنيا كلها دارت في لمحة خاطفة ..
لقد كان ارتطاما قويا ومفاجئا ..
سقطت على الأرض .. وغير بعيد مني دراجتي المتهشمة ..
رأسي مغبر من التراب وأحس بدوار شديد ..
وقف صاحب السيارة قليلا ..
ثم سمعت صوت المحرك وهو يضغط عليه ..
أحس بألم شديد في فخذي .. وضعت يدي عليه فعدت بدم حار ..
في هذه الساعة المتأخرة من الليل .. وفي هذا المكان المنقطع من البيوت ..
كنت أنظر إلى أنوار سيارته الحمراء وهو يبتعد عني هاربا ..
أحسست بمرارة في فمي .. ونشجت نشيجا كاد ينشق منه حلقي ..
واستسلمت للإعياء ..
عشت لحظات مثل حلم مزعج ..
رأيت وجوها كثيرة .. رأيت سقف سيارة .. أحسست بأنني على سرير قماشي ..
أركبوني سيارة إسعاف فارهة ..
أحس بغرز أبر في فخذي ورائحة مطهرات مستشفى ..
في اليوم التالي ..
أدركت أنني في المستشفى العام
كانت فخذي مكسورة وفيها جرح غائر قام الأطباء بخياطته ..
مكثت يوما أو يومين بعد إجراء العملية ولم يزرني أحد ..
في اليوم الثالث زارني الكفيل واطمأن على صحتي ثم خرج ..
وبقيت وحيدا ..
وحيد ..
وحيد حتى في المدن الصاخبة !
إلى جانبي في الغرفة شيخ مسن ..
يزوره بعض أقاربه فيلتفت بعضهم إلي ويسلم بحفاوة واطمئنان ..
وربما سكبوا لي قليلا من القهوة بأمر من الشيخ نفسه ..
وبعضهم كانوا لايأبهون بهذا العامل الهندي ذو السحنة السمراء ..
وعندما خرج من المستشفى انقطع عني الزوار !
بعد فترة ليست بالقصيرة استطعت الخروج إلى السكن ..
مكثت قعيدا على السرير .. وحدي في الغرفة ..
ويومها ..
رأيت أحد الصناديق التي كانت تحت الأسرة مكشوفا ..
واستطعت رؤية مابداخله ..



( 6 )


نافخوا كير ..



نعم ..
كان منسيا على مايبدو .. واستطعت رؤية مابداخله ..
لقد هالني منظر الأشياء المتكدسة داخله بشكل عشوائي ..
أشرطة فيديو سوداء من دون أي ملصق .. وأقراص حاسب كثيرة !
كنت أسمع من بعض أصدقائي أن بعض العمال يقوم بنسخ الأشرطة وبيعها ..
ولكني لم أكن أشك لحظة في أن هؤلاء الذين يقاسمونني هواء الغرفة يصنعون ذلك !
هل يلزمني أن أصنع شيئا ؟
فكرت سريعا في العمل الذي يجب أن أقوم به .. ولكني قررت أن لا أتدخل بشيء .. وأن يستمر الأمر كما كان وكأن شيئا لم يكن .. وسألت الله أن يحفظ أعراض المسلمين منهم وأن يكفيهم شرهم ..
لا ..
لم يكن قراري معجونا بالخوف بقدر ماكان حذرا جدا لهذه الحفنة المؤذية ..
في أحد الليالي السابقة.. كان من وراء باب السكن سيارة يضرب صاحبها المنبه بكل ثقة .. خرج إليه أحد الثلاثة الذين كانوا معي في الغرفة .. ثم عاد ليخبرنا بأنه رجل يريد مجموعة من العمال لحمل أغراض من منزل إلى آخر .. وأنه اتفق معه على أن يكون ذلك بستين ريالا ..
خرج الثلاثة إليه على عجل دون أن يقولوا لي شيئا .. ركبوا معه ولكن السيارة لم تتحرك ! .. نزل إلي أحدهم مسرعا وطلب مني الذهاب معهم .. وعرفت فيما بعد أن الرجل كان قد قال لهم إن ثلاثة لايكفون لحمل الأغراض ..
كان رجلا في الأربعين من العمر تقريبا ..
ونحن في الطريق إلى منزله قال أحدهم بلغة هندية عميقة لا يدركها الرجل : أغراض تحتاج إلى أربعة عمال ؟ إن خمسة عشر ريالا لكل واحد قليلة جدا ؟
ورد عليه الذي كان بجانبي بالهندية أيضا : عندما نصل .. دعونا نتفق على الإضراب حتى يرفع الأجرة إلى مئة ريال للجميع ..
وقال الذي في الأمام دون أن يلتفت : رائع ..
وقال المتحدث الأول : اتفقنا ..
ولم يبق غيري !
التفتوا إلي ولكني لم أقل شيئا ..
وأحسست بتضايقهم مني جدا مع أنني لم أخطئ !
عندما وصلنا .. نفذوا خطتهم بإحكام .. وبقيت متفرجا على المشهد وهم يتمنعون والرجل يساومهم حتى بلغ المئة !
وحينما عدنا إلى السكن ناولني كبيرهم خمسة عشر ريالا وهو ينظر إلي شزرا ويقول : هذا حقك من المئة !
أرأيتم ؟
إن من الناس من لاتستطيع عمل شيء معه سوى أن تنظر إرادة الله فيه
وكذلك كان قراري حينما رأيت مارأيت داخل الصندوق
وكانت حكمة الله فوق كل شيء
في آخر الليل .. كان المكيف الصحراوي العجوز يحن بكل كسل .. وكنت كلما حاولت أن أنقلب إلى شقي الآخر وجدت عنتا شديدا في فخذي ذي الجبس الأبيض ..
رأيت أنوارا حمراء تومض من الفتحة أعلى المكيف !
أسمع صوت سيارات كثيرة تقف حول الإستراحة ..
فجأة ..
انفتح الباب بسرعة عن رجال شرطة ..
أخذ كل واحد منهم مكانه منا ..
كنت أتألم بشدة والشرطي يجبذني من يدي بقوة وأنا أشير إلى فخذي وهو يقول : كزاب ..
وعندما أظهرت له الجبس .. خفف من الحدة التي كان يظهرها ..
قاموا بإخراج صناديق كثيرة .. ثم نشروها على الأرض .. والتقطوا لها صورا ولنا أيضا ونحن مصطفون خلفها !
مكثت هناك أياما ثبت فيها عدم تورطي بالأمر
وقام الكفيل بإخراجي بعد أن شهد بأنني غير مضطلع بمثل هذه الأمور ..
وعندما شفيت رجلي ..
عرض علي الكفيل عملا لم أزل أرفع يدي داعيا له بسببه



( 7 )


قبل الرحيل



في غرفة متطرفة من المسجد الجامع الذي يؤمه عبدالرحمن ابن الكفيل كنت أرتب الأغراض في سكني الجديد ..
عملي الآن هو حراسة المسجد وتنظيفه وترتيب الفرش ومتابعة دورة المياه - أكرمكم الله - وإطفاء الأنوار ..
الأرض بكل مافيها لاتسع فرحتي وأنا أحرك المكنسة الكهربائية داخل المسجد وهي تصيح بصوت مستقيم ..
لاتزال عالقة في ذاكرتي منذ كنت طالبا صغيرا في مدرسة قريتنا قرب كيرلا صورة أستاذنا الشيخ بوجهه الأسمر المبتسم وهو يكور حول رأسه عمامة بيضاء كبيرة متناسقة ولحيته البيضاء المسترسلة وهو يحثنا على تنظيف المسجد ويذكر لنا أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على وقت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لما افتقدها سأل عنها فأخبروه أنها ماتت ودفنوها فذهب عليه الصلاة والسلام إلى قبرها وصلى عليها ..
الآن .. جمع الله لي الدين والدنيا ..
يؤسفني كثيرا حال أولئك المصلين الذين لايبالون بنظافة المسجد أو دورات المياه .. كثيرا ماكنت أعثر على بقايا قشور لحبوب أو أعواد لمناقيش أسنان تحت الفرش !
وأتأثر كثيرا حينما أشاهد خربشات كثيرة على جدران دورات المياه تشتمل على رسومات فاضحة ..
كثير من السعوديين لايجلسون في المسجد أكثر من ثلاث دقائق فقط .. يأتون متأخرين .. ويخرجون مبكرين ..
أنا أشاهد ذلك في اليوم خمس مرات ..
ليس تعصبا حينما أقول لكم بأن الهنود والباكستانيين وغيرهم أكثر أداءا للسنن الرواتب من السعوديين ..
وأكثر إنفاقا أيضا ..
عندما قام سائل بعد صلاة الجمعة وعرض حاجته وجلس في مؤخرة المسجد .. كنت أراقبه عن كثب ..
لم يخرج هندي واحد إلا ومد له ورقة نقدية حتى ولو كانت يسيرة سوى نزر يسير منهم ..
أما السعوديون فلم يعرج عليه أحد منهم إلا القليل نسبة إلى أولئك ..
قد تقول لي إن مايدفعه سعودي واحد يعادل ماينفقه عشرات الهنود .. وأوافقك على ذلك ولكني أتحدث هنا عن وجود المبدأ أساسا .. وربما كانت حاجة العامل لما أنفقه كبيرة بالنسبة للراتب الذي يتقاضاه بخلاف ماأنفقه السعودي نسبة إلى راتبه ..
عندما قمت من نومي صباح أحد الأيام .. سمعت جلبة خارج المسجد .. أسرعت إلى الباب وإذا إمام المسجد عبدالرحمن وجماعة من جهة تسمى توعية الجاليات ينصبون خيمة كبيرة جدا ..
بادرت لمعاونتهم وعرفت فيما بعد أنها لتفطير الصائمين في رمضان ..
هبت نسائم رمضان الإيمانية الرخية ..
وكنت عضد عبدالرحمن الأيمن في إدارة الإفطار مما جعله يتغيب في بعض الأحيان إعتمادا علي ..
حتى إن رجلا سعوديا حضر التفطير مرتين فرأى كثرة حركتي واهتمامي وحسن تدبيري .. فانفرد بي وأسر إلي بأنه يرغب نقل الكفالة إليه مع مضاعفة الراتب ..
استهجنت منه هذا التصرف القبيح ..
ورفضت عرضه بشدة ..
لقد ودعت رمضان كما لو كنت أودع صاحبا عزيزا على نفسي .. فهذه المناسبات تجعلنا نحس بأننا نعيش في مجتمع أخوي مسلم .. لانحس به في غيرها ..
ولكن عبدالرحمن لم يقوض الخيمة ..
وطلب مني التجهز لإقامة عيدية صباح الغد في يوم العيد .. وكان ذلك فعلا ..
فقد حضر العمال وهم في كامل زينتهم إلى مصلى العيد وشاركوا الأهالي صلاتهم و دعواتهم ثم انقلبوا إلى الخيمة مباشرة دون أن يقبلوا رؤوس آبائهم وفلذات أكبادهم ..
و ماكادت نفحات أيام رمضان تنمحي حتى هبت نفحات الحج العظيمة ..
أسر إلي عبدالرحمن بأن الأخوة في توعية الجاليات معجبون بنشاطي ويرغبون مرافقتي لهم إلى الحج وأن أكتر سيكون معنا .. وأن عبدالرحمن نفسه سيكون برفقتنا أيضا ..
أعتذر إليكم الآن لأني لاأجد وصفا يمكنه استيعاب سعادتي ..
أخذت يد عبدالرحمن لأقبلها فسحبها بسرعة وهو يستعيذ بالله من الشيطان ..
اتصلت بأهلي وبشرتهم ..
كلهم حملوني وصايا من مكة والمدينة ..
ومكثت أعد الليالي انتظارا لساعة الانطلاق ..
في باص كبير كنا مجموعة كبيرة من الهنود والباكستانيين والفلبينيين والبنجلاديشيين .. وجاليات أخرى ..
يدير الباص شباب سعوديون أكثرهم مثل عبدالرحم..
حينما توشحنا بياض الإحرامات وبدأنا بالتلبية خفق قلبي بما لا أدرك كنهه ومعناه ..
وحينما رأيت الكعبة لم تستطع قدماي على حملي ..
تهاويت في مكاني وأنا أرفع يدي بالحمد وأبكي .. ضجيج الطائفين حول الكعبة الواقفة بكل شموخ وهم يجأرون بالدعاء مهيب جدا .. وزمزم .. لقد تضلعت منه وغسلت رأسي به ومسحت على صدري واشتريت منه علبا كبيرة أوقعني في حرج مع إدارة الحملة حيث ذكروا لي أنهم يؤجلون ذلك لآخر الرحلة في العادة ..
كل الحجاج مسلمون .. ولذلك فأنا أحبهم كلهم ..
حالة من اللحمة الأخوية الإيمانية تجل عن الوصف ..
لكنني أصبت بخيبة أمل كبيرة ..
رأيت اثنين يتشاجران بالألسن ثم تفاقم الأمر إلى الاشتباك بالأيدي حتى اجتمع الناس ..
ورأيت حجاجا يرتدون الإحرام الجميل ويدخنون بكل شراهة ..
ورأيت حاجا يقضي حاجته في الشارع ..
كما وقعت لي جائحة أقلقتني كثيرا ..
حيث نزعت حقيبتي الصغيرة وعلقتها على مشجب قرب دورات المياه .. كانت فيها أوراقي الرسمية ومئتان وخمسون ريالا .. كنت أقول : في الحرم .. حتى الحمام آمن على نفسه .. ولكنني نسيت أنني قلت ذات مرة بأن كثيرا من الحيوانات أقرب من بعض البشر ..
سرقت حقيبتي ..
بحثت عنها وأنا أولول في صدري .. أنقل بصري بسرعة في كل اتجاه .. وفي كل المواضع القريبة ..
يبدو أنها قد سرقت فعلا ..
تحدرت من عيني دمعة حارة .. وتأسفت أسفا شديدا ..
في المخيم .. علم عبدالرحمن بما حصل لي فطمأنني .. ودس في يدي أوراقا نقدية حينما رأيتها عرفت أنها مئة وخمسون ريالا ..
وقام أكتر من حيث لاأدري بمخاطبة بعض الهنود فجمع منهم خمسة وستون ريالا ..
عندما عدت من الحج .. كنت أتحسس رأسي المحلوق وأنا أتذكر رأس ذلك الشيخ الحاج الذي احتفل به أهل القرية وبزوجته العجوز ..


وقريبا موعد سفري إلى هناك
سأعود إلى القرية إن شاء الله


أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه
وتقبلوا السلام مني



أخوكم / وحيد أبو الكلام






..