| ]





لن أدس رأسي في الرمل ..
سأخوض في الوحل ..
سأقول ما لا بد من قوله ..
سأتحدث على المنصة وحيدا تحت الأضواء .. إنه ابني .. وابنك ..
أخي .. وأخوك ..
أبناؤنا جميعا ..

إن لم نكن لهم .. فمن لهم ؟

أسمع أصوات ذئاب خارج الباب ..

لوط عليه السلام يدخل ويخرج وعلى وجهه مسحة هم .. وتأثر ..

أليس منكم رجل رشيد .. أليس منكم رجل رشيد ..

زمرة تتسلل إلى الخارج وهي تتوشح سواد الليل قبل الصبح ..

أليس الصبح بقريب ؟

الآن ..

أسمع نعيق غراب ..

لا ..

غربان ..
غربان تهرب في كل اتجاه ..
ولا نجاة ..أسمع صياح ديك يجأر .. ودواب أخرى تتوسل ..ونباح كلب ..
حتى الكلب !!


والآن ..

ضجيج وصراخ خارج حدود الخرائط الأرضية ..

لا ..
الآن ..أشم رائحة غبار يتطاير..
يبدو أن القرية قد انكفأت ..وخمد الصوت إلى الأبد ..

إلى الأبد ..

سدوم ؟

رويدكم ..

لا تستعجلوا ..

سأقص عليكم القصة الآن ..





( 1 )



نظرةٌ .. فابتسامةٌ .. فسلامٌ



فكلامٌ .. فموعدٌ .. فلقاء



قال لي وهو يتحدث بلسان مر:في الحي المتاخم لحينا .. كان منزل عمي ..خالد ابن عمي وأنا صديقان منذ الفطام ..
ربما كانت سهرتنا في ملحق منزلنا وكثيرا ماكنا في الملحق لمنزل عمي ..أشياء كثيرة كانت بيننا .. الصداقة حد الألفة .. والتحدي حد التنافس .. وتجمعنا جميعا روح المغامرة ..كلانا في المرحلة الثانية من المتوسطة ..خالد ابن عمي ذو وجه حنطي وجسم نحيل جدا .. قسمات وجهه لاتشي
بالوسامة إلا بعد التأمل المستمر
.. لكنه يحمل نفسا وسيمة .. وروحا دعابية جذابة ..وأما أنا فقد كنت مكتنز اللحم شديد البياض ولكني لم أكن وسيما إلى حد لافت للنظر .. ربما أكون وسيما بالمقارنة فقط .. هناك في التقاطع القريب من بيت عمي وسط الحي بقالة يشبهها عمي دائما باللمبة ..اللمبة ؟!عندما سأله والدي مرة عن سبب التسمية عدل عمي من جلسته ليبدأ مشوارا طويلا من الفلسفة على عادته وقال
:


- اللمبة تجمع الحشرات من كل صوب ثم يأتي الوزغ ليصطاد منها مايشاء ..


حينها لم أكمل سماع الحوار الهامشي لفلسفة اللمبة لأن ابن عمي خالد كان قد التفت إلي وهو يضحك ويقول : أجل عامل البقالة هو الفيش !! الوزغ .. الذئب .. الثعلب .. هل يمكن معرفة متقمصيها من البشر ؟أشك في ذلك كثيرا .. لأن حلاوة اللسان مقدمة على الروغان ..لا تسألوني !اسألوا صالح عبدالقدوس حين قال :



يعطيك من طرف اللسان حلاوة ** ويروغ منك كما يروغ الثعلب



إذن .. المعرفة تكون بعد أن يروغ ..نعم .. وذلك الذي وقع لي .. وأوقعني في الفخ ..حمود ..يدرس في متوسطة ابن عمي خالد بل إنه يجلس في الكرسي الذي خلفه في الصف .. رأيته كثيرا عند البقالة .. وحدثني ابن عمي عنه كثيرا .. لم أكن مرتاحا له على أية حال ..يفترض - بالنظر إلى عمره - أنه من طلاب الصف الثالث ثانوي .. حليق الذقن وله شارب محدد ونازل مثل علامة رتبة عسكري مبتديء .. غليظ الصوت .. طويل نسبيا .. عليه مسحة جمال لكنها قاتمة ! .. يضحك من كل شيء .. يعرف كل شيء .. سخي بكل شيء .. لاتظهر عليه رائحة الدخان ولكن المقاعد الجلدية في سيارته متشبعة به ..كان يأتي من أقصى الحي على سيارته الماكسيما السوداء ورأسا يتوجه إلى البقالة .. ويستمر في الحديث مع ابن عمي لساعات طويلة .. يكون ذلك وهو في داخل قمرة سيارته أحيانا أو يفتح الباب فتنزل قدم وتبقى أخرى في الداخل ..لا أدري كيف تعرّف علي وأنا الحذر جدا ..جرأته في المزاح كانت قوية ..غمرني بمزحة كانت مثل موجة بحرية شهية ..ضحكت ..صار بعدها يوزع اهتمامه ومزاحه ونظراته بيني وبين ابن عمي ..في اختبارات الفصل الأول رأيت الطلاب متجمهرين في الشارع الكبير المقابل للمدرسة ..سيارة ماكسيما سوداء تستعرض بكل مهارة .. حمود ؟ قلتها بلا شعور .. فالتفت إلي صديقي في الفصل وقال : تعرفه ؟ .. هذا أحسن مفحط بالحارة .. يسوي حركات مايسويها أحد .. تعرفه ؟ أخذتني نشوة .. نشوة المراهقة بطبيعة الحال .. وقلت له :إيه .. أعرفه من قديم ..وقطع كلامنا صرير العجلات في حركة مهارية نادرة ..صراخ وتصفيق .. وتشجيع .. ونشوة لا توصف ..في المساء ..كنت أذهب إلى ابن عمي للمذاكرة .. فرأيت حمود هناك ..


- حركات حلوة اليوم ..قلتها وأنا أرفع حاجبي الاثنين ..ضحك مسرورا .. وحرك عينيه كما لو كان خجلا وقال :


-أنت أحلى !!


شوط من رعشة كهربائية ناعمة سرت في كل عرق من عروقي ..وقال ابن عمي خالد وهو ينظر إليه :


- خير؟ .. أي حركات ؟ .. علمونا ..


انفجر هو بالضحك وقال :


- أنا ماقلت حركات ولا شي !


والتفت إلي ابن عمي :


- أي حركات ؟ .. علمنا ..


تحدثت بكل طلاقة .. ووصفت المشهد كأدق ما يكون الوصف .. كان مسرورا مما أقول .. يضحك .. ويضحك ..قال ابن عمي وهو يحرك رأسه ثم يشير بسبابته للأسفل :


- لا .. لالالالا .. مايصير .. بكرى لازم أكون معك ياحمود ..


- أبشر بسعدك ياخالد ..


-وأنا ؟ قلتها وأنا محلق في ذلك الجو الخمري الساحر ..


- أبشروا .. أبشروا والله .. بس حاولوا تطلعون بدري من الاختبار ..


في إجازة الربيع ..وفي الفصل الثاني كذلك ..توطدت العلاقة بيننا كثيرا نحن الثلاثة .. يعتذر حمود في بعض الأحيان لارتباطه بأصحاب له آخرين .. يحملنا لأي مكان نريد .. سوق الجوالات .. تجمعات التطعيس .. التفحيط .. المطاعم .. كل شيء ..بساط من الريح يحملنا لأي مكان ..أو ربما مصباح علاء الدين ..أهداني مرة جوالا فاخرا .. لكنه مستعمل .. كان يفزع بكل ما أوتي من جهد لما يعوزنا لم يشعر أحد من أهلنا بذلك ..ومن الذي يلتفت للحشرات حول اللمبة ؟!!حتى جاءت تلك الساعة الحاسمة في حياتي كلهالم يكن كعادته ..هذه المرة ذهب لإنزال ابن عمي خالد قبل أن ينزلني !سلك طريقا بعيدا عن الحي ..التفت إلي برأسه ذو القبعة الحمراء وغمز بعينه ورفع إبهامه وهو يقول : - اليوم نبي نسوي حركات ؟!!


فهمت بسذاجة منقطعة النظير أننا مقبلون على مغامرة فريدة ..ضحكت .. وهززت رأسي ..صوت الغناء يصدح وهو يدق بأصابعه على مقوده بنغماتها .. ويهز جسمه ..انعطف خارج المدينة ..كلما سألته .. ضحك وقال : لا تستعجل ..روح المغامرة لدي طافحة على كل شيء ..ابتعدنا كثيرا ..قطعنا مسافة غير معتادة أبدا ..عطف سيارته جهة الصحراء ..التفتُّ إليه ..رفع إبهامه وهو يخفض رأسه ويغمز بعينيه ويعض شفته السفلى ..الآن ..ساورني شيئ لا أدري ماهو ..







( 2 )






ومن رعى غنما في أرض مسبعة



فنام عنها .. تولى رعيها الأسد






أوغل كثيرا في الصحراء ..والهم الذي ساورني أصبح متفاقما كلما دخلنا أكثر ..الصحراء في الصيف تأخذ إجازة طويلة .. وتنام .. بعد أن تكون قد تبرأت من كل شيء ..الأغنية تزداد صخبا ..ماذا يريد في الصحراء ؟ماذا يريد أن يفعل ؟لا .. لا ..حمود إنسان محترم ..منذ تعرفت عليه وهو لا يؤذيني بشيء ..بل إنه يحاول إسعادي في كل شيء ..لأرى ..وصلنا شجرة كبيرة في واد صغير ..لحظات سريعة محتدمة ..وجهه يقترب من وجهي .. هجم علي !ابتعدت بسرعة .. هل هو يمزح ؟ هل هو حمود ؟ صارحني بما يريد ..ورفضت بشدة ..كان متوددا أول الأمر .. وحينما رأى رفضي الشديد .. تحول إلى شيطان مارد ..نعم .. الإنسان تحت تلك الشجرة تحول إلى شيطان .. شيطان ضخم وبذيء ..كل شيء توقعت حدوثه غير الذي حدث ..كان عمري أصغر من أن يحتمل موقفا كبيرا كهذا ..الصحراء خالية ..دافعت بشدة ..هل أستطيع الهرب ؟اختطاف ؟صورة الاختطاف في نظري مرتبطة بما يحدث في الأفلام فقط !قبض سريع .. توثيق للأطراف بحبال غليظة .. ربط للفم .. ومحاولة جادة في الهرب للمختَطَف ..هل أنا مختطف الآن ؟الذئب يعوي بلا رحمة ..الفريسة تتلوى بين المخالب ..صور متداخلة .. كلها بشعة .. رأيت سكينا .. وسمعت فحيحا ..و رأيت وجها مكفهرا .. ورأيت أشياء قبيحة لا يحتملها إنسان سوي ..عندما عدنا ..كنت صامتا طوال الطريق .. ولكن صدري يضج بالصراخ .. صرخات القرف .. واللوم .. والتأنيب .. والقهر .. والبكاء ..كنت متأثرا جدا ..وعندما دخلت البيت رن هاتف الجوال برسالة من حمود :


- (الأمر بيني وبينك فقط .. وإذا علم أحد بما حصل فستندم ) !!


فهمت منها أنه سيترك الأمر سرا بيني وبينه ..قطعت على نفسي بأن أنهي العلاقة مع هذا الشيطان الوقح .. وأن أطوي صدري على الشوك ..مرارة الموقف كانت قاسية جدا ..لو قدر لي أن أتحدث للشباب الذين هم في مثل عمري لقلت لهم :


-إياكم وأول الطريق .. السيجارة الأولى .. سأجرب ..


- الركوب الأول .. سأجرب ..


- الرحلة الأولى .. سأجرب ..


- السهرة الأولى .. سأجرب ..


- الحبة الأولى .. سأجرب ..


لاتجرب ..


الناس في آخر الطريق يصيحون بك : لاتجرب ..


ليس في هذه الطرق تجارب ..التجارب هنا تعني أشياء كثيرة من الهم.. والأرق.. والبؤس.. والقضبان.. والمرض ..وإذا حصل لك شيء من ذلك وخطوت الخطوة الأولى فعد من أول الطريق .. فالضريبة حينها قابلة للتحمل ..


سألني خالد :


- كأنك لاتحب الذهاب معي أنا وحمود ؟


اكتفيت بهز رأسي ..


خلال ذلك الأسبوع كنت متوترا إلى أبعد الحدود .. في البيت .. في الفصل .. في الشارع .. لم يكن الوضع طبيعيا بالنسبة لي ..وفي آخر الأسبوع رن الهاتف برسالة من حمود :


- ( انتظرني بعد العشاء )!! ماذا يريد هذا المجرم ؟ تركت الرد على رسالته ..وعزمت على نسيانها .. ونسيانه ..وبعد العشاء .. اتصل بي فلم أرد عليه ..اتصل أخرى .. وثالثة .. فلم أرد ..رن جوالي برسالة وسائط ..وحين فتحتها ..صعقت ..أصبت بالدوار ..حالة من الغثيان هجمت علي بسرعة ..تهاويت ..رن هاتفي برسالة وسائط أخرى .. وثالثة .. عندما فتحتها جميعا تمتمت بلا وعي : مجرم .. وقح .. حقير ..


صورتي عاريا عند سيارته ومن خلفها الشجرة وأنا أجمع ملابسي ..صورة أخرى وأنا ألبس ..وصورة ثالثة قبيحة ..ضربات قلبي تزداد ..الدنيا من حولي تحولت إلى دوائر سوداء قاتمة ..ورن هاتفي برسالة من حمود :


- ( أنا عند الباب ) !!







( 3 )شاور أخاك إذا نابتك نائبة



يوما وإن كنت من أهل المشورات



فالعين تبصر منها ما دنى ونأى



ولا ترى نفسها إلا بمرآة






الوقت لايكفي للتفكير العميق ..ولم أجد بدا من الخروج ..لقد أصبحت مكبلا .. ومهددا في أي لحظة بضغطة زر واحدة ..إنما مثلي ومثله كمثل المجرمين الذين يضعون المسدس على رؤوس رهانئهم ويهددون بإطلاق الرصاصة الأخيرة عند أي تحرك من الشرطة..لقد كنت صغيرا .. وأخاف على نفسي .. ولم أخبر بذلك أحدا كما توعدني .. وشيطاني أيضا كان يمهد لي خيارات غريبة على أنها الحل .. لقد كنت بين شيطانين في الحقيقة ..وطويت صدري على زمرة أشواك .. كنت وإياه مثل القطة والفأر كما في (توم آند جيري)لا ..إن الفأر هناك يتحرك بكل حرية .. إنني مثلها عندما كنت أذهب إلى البقالة قبل أن أصاحب حمود ..في حوش منزلنا رأيت مرة قطا مضطجعا بكل هدوء ويتلفت بأعصاب باردة وأمامه فأرة منهكة كلما حاولت الهرب سحبها بيده بكل برود ..إنني أشبه نفسي بها الآن ..بكيت لوحدي كثيرا ..كرهت نفسي .. وكرهت أناسا آخرين من دون سبب !!رأيت أبي يتحاور مع المرشد الطلابي في غرفته ..ثم استدعاني المرشد بعدها وجلس معي على انفراد :


- أنت طالب مؤدب .. وذكي .. ومجتهد .. ومحترم .. لكنك في الفصل الثاني تغيرت كثيرا .. درجاتك هبطت كثيرا .. بعض المعلمين ذكر لي أنك كثير النوم وكثير التفكير خارج الدرس .. كان أبوك يناقشني قبل قليل عن وضعك في المدرسة .. وأنه مستعد لنقلك إلى المتوسطة الأخرى في الحي المتاخم إذا كانت المشكلة في طلاب هذه المدرسة !! .. هاه ؟ .. هل هناك شيء يؤذيك في المدرسة ؟
-................................................... ؟
- الموضوع عادي جدا .. أنا أخوك الكبير .. اطرح مشاكلك هنا بكل راحة ..


صورة وجه حمود القذر تتحرك فوق رأس المرشد .. رسائل الوسائط ترن في أذني .. اكتفيت بالسكوت لأنني لم أستطع الكلام ..- تحدث بكل مشاكلك .. قل أي شيء يزعجك .. لاتتردد ..في هذه اللحظة .. لم أستطع أن أملك زمام نفسي فانفجرت ببكاء مرير ..كنت أنشج بقوة ..تركني المرشد قليلا .. وهدأ من روعي .. وقال :


- سيكون سرا بيني وبينك .. صدري قبر لسرك .. عهد بيني وبينك ..تراخيت قليلا .. البكاء أزال عن ظهري شيئا من الحمل الثقيل .. قلت في نفسي :


- سأقول له وليكن ما يكون .. اشترطت عليه أن لا يخبر أحدا من البشر بما أقول .. حتى أبي .. ثم قصصت عليه الخبر حتى آخره ..كان متفاعلا معي .. وتأثر كثيرا بقصتي ..لاطفني ووعدني بأنه سيتابع الموضوع معي .. ولكنني لمست تورطه بمعرفة السر !لمست ذلك بإعراضه عني بعد تلك الجلسة !!لم يجلس معي بعدها أبدا !أصبح الوضع عاديا بالتدريج فيما بيني وبينه كما لو أنني لم أقل له سرا خطيرا .. يبدو أنه سيكتفي بحفظ السر فقط !بعد جلستي معه بأسبوع قام باستضافة شيخ جليل وكان عنوان المحاضرة (الفاحشة )وقام أيضا بتوزيع مطويات عن الفاحشة وخطرها ..ولكن ذلك لا يعني لي شيئا !أنا لست جاهلا بالخطر ..أنا وقعت في الخطر الآن وأعترف بخطئي .. فهل إلى خروج من سبيل ؟ اكتشفت بعد تجربتي مع هذا المرشد أن البعض يعمد لاستثارة الأسرار من صدور الناس وهو غير مستعد لمتابعة الحل !وأن من المرشدين الطلابيين من هو مرشد على مكتبه وأوراقه فقط !! بل إنني أحسست بشيء من اليأس حيال مشكلتي حيث أنه قد عجز عن حل مشكلتي رجل كبير من مثل المرشد الطلابي ..كما قلت لكم .. لم يتغير شيء ..واستمرت عبثية القط بالفأر ..وفي أحد الحصص الدراسية ..أخرج الوكيل طالبين من الفصل .. صالح وفهد ..همهم الطلاب بخبرهما وأنهما تشاجرا في اليوم الذي غبت فيه ..صالح ؟صالح طالب مؤدب ومحترم .. أنيق جدا وجميل تقاسيم الوجه .. ولبق في الحديث إلى حد كبير .. وهو أحد طلاب حلق تحفيظ جامع الحي .. بل إنني سمعت من غير واحد في الفصل بأنه يحفظ كثيرا من القرآن .. مع هذا كله كيف يكون قد تشاجر مع فهد ؟وفي الفسحة الثانية اقتربت من صالح وسألته :


- عسى المشكلة هينة إن شاء الله ؟


- هلا والله .. أي مشكلة ؟


- المشكلة التي بينك وبين فهد ..


- أها .. فهد طالب وقح .. ويستاهل ..


- يستاهل ؟ .. يستاهل ماذا ؟


- أنت غير موجود يوم السبت ؟


- نعم .. كنت غائبا .. هل تخبرني بالقصة ؟


-سم .. لاتخفى عليك شخصية فهد وخلقه السيء .. جاءني يوم السبت ورمى علي كلاما فاحشا .. نظرت إليه بعيني تهديد .. ولكنه في زحمة الطلاب جاء مختلسا من ورائي ولمسني بيده في موضع حساس .. التفت إليه ولكزته في بطنه .. ثم نزعت حذائي وصفعته على خده .. ولولا اجتماع الطلاب حولنا .. وحيلولتهم بيني وبينه لكنت قد تركته خرقة بالية ..


- صفعته بالحذاء على وجهه ؟


- نعم .. هو أحقر من أن أحترمه .. وحذائي أكرم من فعلته التي فعلها ..


نظرت إليه نظرة إعجاب وإكبار .. هل هذا هو صالح الهاديء الصامت ؟ .. كنت أظنه لايستطيع الدفاع عن نفسه !..إن داخل هذا المخلوق الأليف حميَة عظيمة .. وخلقا كبيرا .. سألت نفسي وأنا أتأمل في وجه صالح :


- ترى .. هل يكون أول خيوط الحل عن طريق صالح ؟





( 4 )
ياربيب القرآن .. ياطلعة الصُّبـــْ



ــــح .. ويا نفحة من الأقحوان








سألته ..


- ومن أين تعلمت مثل هذا ياصالح ؟


- هذه لاتحتاج إلى تعلم .. مسألة الأخلاقيات مسألة لاينبغي الاستهانة بها .. وبعد دقيقة من الصمت بيني وبينه عاد ممسكا بزمام الحديث وهو يقول :


- أذكر قصة واقعية في أحد المدن جنوب المملكة قصها علينا مدرس الحلقة يقول : إن أحد اللا أخلاقيين قام باستدراج شاب صغير من أحد المدارس حتى ركب معه .. ولكن هذا الخائن خرج به خارج العمران يريد أن يفعل به الفاحشة .. بمعنى أنه اختطفه .. وعندما طالبه الشاب الصغير بالوقوف .. رفض وهو يضحك ويقول : إنزل وأنا أمشي !! فما كان من الشاب الصغير إلا أن فتح الباب وقفز منه .. وأما المجرم فقد هرب مثل ثعلب سارق سمع طلق عيار ناري ..قال مدرس الحلقة بأن من ساق له القصة - وهو أحد رجال الشرطة الواقفين على القضية - ذكر له بأن الشاب أصيب بجروح وكدمات لزم بعدها المستشفى ثم خرج بعد ذلك .. كما تمت معاقبة هذا المجرم بما يستحق .. قد يكون تصرف هذا الشاب خارقا للعادة .. لكنها حادثة وقعت فعلا .. وكونه يفكر بحماية عرضه إلى هذا الحد يعتبر وعيا مبكرا يحتسب له ..عندما كان صالح يروي القصة كنت محلقا بخيالي إلى ماوراء الأفق .. هناك .. هناك حيث كنت أرى سيارة ماكسيما سوداء تمشي في الصحراء بكل هدوء !! .. وصوت المغني يرتفع بلا مبالاة !! .. وفي جوفها ذئب هائج .. ونعجة طائشة في غمرة المغامرة!! ألا سحقا لهذه المغامرات .. وقبحا لذلك الجهل الذي حملته بين جنبي حينها ..قلت له :


- وهل أستطيع مقابلة مدرسك في الحلقة ؟


- نعم .. وتسجيلك معنا في حلق الجامع أفضل .. تساءلت مع نفسي ..هل أنا مناسب لأن أكون طالبا في حلقة تحفيظ قرآن ؟ والحق أنني فكرت في ذلك كثيرا .. كلما طرحت الموضوع للنقاش بيني وبين نفسي هجم تاريخي السابق بكل جرأة وسحب الأوراق من بيننا ثم تأجل الإجتماع !!إلى أن تقابلت - وبلا مقدمات- مع مدرس حلقة صالح في مغسلة الملابس .. سلم علي بكل حرارة .. وسألني عن أخبار الدراسة .. بدا لي عاقلا ومتزنا .. ولم يمنع ذلك من أن تشرق من بين تقاسيم وجهه ابتسامة جميلة .. كدت أن أفضي له بالسر !! فكرة جنونية أليس كذلك ؟لا .. ليست جنونية .. ولم أقم بها أيضا .. ولكن قدر الله كان يجري على نحو لم يدرك كنهه أي منا ..وجدتها فرصة سانحة وسألته :


- هل يمكنني التسجيل في حلق جامع الحي ؟


- بالطبع .. وبكل سرور .. احضر مساء اليوم إن شئت لأحدثك بكل أنشطة الحلق ..


لم أنم ذلك الظهر .. عدت إلى المغسلة مرة أخرى وكويت غترتي وثوبا آخر نظيفا ..وعصرا .. بادرت وصليت في الجامع ..مكثت أسبوعا كاملا .. شاركت خلاله معهم في الرحلة الأسبوعية .. لقد راق لي أسلوبهم كثيرا .. وأعجبتني الألفة الجميلة بينهم ..فرحت أمي بخبر انضمامي لمدارس جامع الحي وبشرتْ أبي بذلك دون أن يكون له تفاعل يذكر .. ولكنني كنت أرمي إلى أمر بعيد ..وحمود؟رجاءا من الذي سأل هذا السؤال ؟أنا لاأحب أن يذكرني به أحد الآن .. نعم .. هو لايزال يعاملني بالتهديد ولا زلت متضايقا منه ولكني على أقل الأحوال في طريق السعي إلى الخلاص منه إن شاء الله .. قولوا إن شاء الله ..في الأسبوع الثاني .. وفي نهاية الرحلة .. انتحيت بأستاذ الحلقة جانبا وقلت له بأنني أحب أن أفاتحه بسر مهم ومشكلة كبيرة .. قال لي :


- هل هو سر بيني وبينك أم هناك من يعلم به ؟


سكت قليلا ثم قلت :


- المرشد الطلابي فقط ..


- حسنا .. يبدو أن الوقت الآن لايسمح لمطارحة المشكلة .. مارأيك لو جلسنا أنت وأنا والمرشد الطلابي في غرفته غدا ؟


- لايمنع .. لكنني أتمنى أن لايحضر معنا أحد ..


- أكيد .. من سيحضر يعني ؟


- قصدي أن لا يدخل طالب أو معلم ولو لأخذ شيء من الغرفة أو لسؤال المرشد


- إن شاء الله .. سأكلم المرشد الطلابي بذلك ..في الغد ..


وعندما انتهيت من سرد قصتي كاملة كان المدرس يعبث بعنفقة لحيته بكل حماس .. قال لي :


أولا / أنت لم تصنع ذلك بهوى منك أو رغبة ..وهذا يدل على خير كثير فيك .. المجرم حقيقة هو ذلك الشاب .. وأنت كل هذه المدة تجني ثمن تهاونك في مصاحبته لاأكثر ..


ثانيا / يجب أن نتذكر دائما أن المفاضلة بين البشر ليست بين مخطيء وغير مخطيء إنما هي بين مخطيء يتوب ومخطيء لايتوب .. والخيرية للأول بالطبع .. ويعني ذلك أن كل ابن آدم خطاء .. فحتى مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم من العثرات كما في قصة ماعز والغامدية رضي الله عنهم ..


ثالثا / أهنئك على حسن تدبيرك ورباطة جأشك حيث لم تنحدر مع المجرم وإنما ظللت تدافع طغيانه بما يمليه عليك عقلك كل هذا الوقت .. ولو أنك بكرت للعلاج أكثر لكان الضرر أقل بالطبع ..ثم سألني :


- ولكن ألا يعلم أبوك بما حصل ؟


-لا ..


- لم ؟


قلبت يدي الاثنتين وزممت شفتي لأبدأ بشرح وضع والدي .. ولكن المرشد تدخل وقال وهو يهز رأسه :


- أنا أحدثك عنه في وقت أطول إن شاء .. أنا أحدثك عنه ..التفت إليه المدرس وقال :


- هذا يعني أننا لا يمكننا أبدا حل الموضوع عن طريق الأب ؟حرك المرشد شدقه الأيمن وهز رأسه بالنفي ..أطرق المدرس رأسه قليلا .. ثم رفعه وقال :


- أنا أرى أنه لابد من أن يخرج السر عنا نحن الثلاثة !تحركتُ-لاشعوريا- على الكرسي .. ونظرت إليه باستغراب ..وسأله المرشد :


-كيف ؟


-................................................





( 5 )
ألا ربما ضاق الفضاء بأهله



وأمكن من بين الأسنة مخرج







قال المدرس :


- نحن لانعرف الطرق المتبعة-عادة- لحل مثل هذه القضية ولكن صاحبي في الهيئة ربما كانت له معرفة بها ..


تغير لون وجهي عندما سمعت اسم الهيئة .. تخيلت رجلا ضخما بيدين كبيرتين و جبين مقطب وصوت أجش !! .. وذلك يعني أيضا أن القضية ستكون كبيرة !!.. ولكن المدرس عندما لمس ذلك مني عاد وقال :


- سأشاوره بصفة شخصية غير رسمية .. أعرفه جيدا .. سيكون عونا لنا بعد الله ..استحسن المرشد الفكرة ثم التفت إلي وقال :


- وأنت ؟


- لامانع لدي إذا رأيتم أن ذلك يؤدي إلى الحل ..


وفي الغد .. في نفس المكان .. ولكن في آخر الدوام .. دخل علينا رجل الهيئة .. كان رجلا دقيق الجسم دقيق الملامح خفيف شعر الوجه أبيض الطلعة .. كان بشوشا بشكل لافت حيث تظهر أسنانه البيضاء الجميلة في كل مرة .. وأنا لاأدري لم كانت تلك الصورة الضخمة متجذرة في خيالي عن رجل الهيئة ؟! .. ولا أدري من أين رسخت ؟! لاأدري !كان المدرس قد قص عليه الخبر بالأمس .. وحينما أخذ مكانه على الكرسي بادره المدرس :


- هاه .. مارأيك ؟


-الموضوع محلول إن شاء الله .. ولقد قضينا على الكثير من مثلها لفتيان وفتيات وقعوا رهائن صور أو مقاطع .. بعون من الله ..قالها بكل ثقة .. بينما تملكني شعور من الفأل عظيم .. ثم استدرك :


-ولكن لدي بعض الأسئلة .. والتفت إلي وهو يقول :


-كم من الوقت بين كل مرة ومرة يخرج بك هذا الوقح ؟


-تقريبا.. اسبوعان .. قد تزيد وقد تنقص ..


- معك شيء من الصور التي أرسلها إليك ؟


- لا .. حذفتها كلها ..


-حسنا .. أنت معذور في حذفها .. لكننا بحاجتها الآن .. ونحن بدورنا لن نطلع على الصور التي أرسلها إليك ولكننا سندينه بها ولذا فإنني أتمنى أن تذكر لي كل ماتحتوي عليه هذه الصور من أشياء ؟ .. كل الأشياء ..


قلبت عيني وفكرت قليلا وهو ينظر إلي ويقول :


- هاه ؟ .. أي شيء ..


قلت له :


- تظهر في بعضها شجرة .. وفراش أزرق على الأرض .. و.. و ..والسيارة .. سيارته الماكسيما السوداء .. عندما نطقت بها أحسست بأن السماء انفتحت فخرجت منها يدان حانيتان وانتشلتني من وحل عظيم .. وبرقت أسارير وجهه وسألني :


- هل سيارته موجودة في الصورة ؟


- نعم .. ولكن أظنها في صورة واحدة فقط !


-لابأس .. ذلك يكفي حتى لولم يظهر سوى طرفها .. وعاد يقول :


- الحمدلله .. نحن الآن نتقدم كثيرا نحو الحل .. بقي عليك أن تنتبه معي لما أريدك أن تقوم به .. فهل أنت معي ؟


- نعم .. بالتأكيد ..


-أريدك أن تنفذه بدقة كما أشرحه لك ؟


-أبشر .. أبشر ..


اتفقنا على كل شيء


وبعد أسبوع رن هاتفي برسالة من حمود ( سأمر عليك بعد العشاء ) نظرت إلى الشاشة وابتسمت وأنا أقول :


- آن أوان انقراضك أيها الوقح .. ولم أرد عليه بشيء ..وبعد العشاء رن هاتفي برسالة منه ( أنا عند الباب ) فرددت عليه برسالة سريعة ( لن أخرج إليك ) .. مكثت دقيقة كاملة وأنا أنظر إلى الشاشة وأنتظر رده بكل حماس .. الثواني تزحف زحفا ..لحظتها رن الجوال منه برسالة وسائط.. رن قلبي فرحا .. فتحتها .. لا .. هذه لاتكفي .. أعدت الرسالة إليه ثانية ( لن أخرج إليك ) .. أرسلتها وكأني أسمعها تضج في السماء ( لن أخرج إليك ) ودمعت عيني وأنا أخاطب نفسي وأقول :


- أين هذه الكلمة مني قبل ذلك ؟


وعاد جوالي يرن برسائل الوسائط الأخرى .. فتحتها بسرعة .. وحينما رأيت الصورة التي فيها سيارته السوداء قلت :


- الحمد لله .. هي الآن في جوالي وجواله ..أدخلت جوالي وسط كيس مليء بالأوراق .. كورتها وخرجت إليه مسرعا وإذا هو عند الباب .. وضعت الكيس وسط حاوية القمامة .. وركبت معه ..دفع رأسي بطرف يده وهو يقول بصوت استهزائي قبيح :


- لن أخرج إليك ..


- ضحكت له وقلت :


- أنت لاتعرف المزح ؟


ضحك ضحكته الهيستيرية المعهودة .. وانبسط إلي ..


عندما سلكنا الطريق العام قلت له :


- أنا جائع .. لو وقفت عند السوق لأشتري لنا شيئا نأكله ..


مكث في سيارته ينتظرني بينما كنت أدور في الأسواق وأنظر من خلف زجاج المحل إلى الشارع .. وحالما خرجت وجدت سيارة الهيئة خلف سيارته ورأيت صاحبي رجل الهيئة عند باب حمود ..وسمعت حمود وهو يدافعه ويصيح :


- مايصير !! .. أنا ما سويت شي .. !!


تجمهر الناس عند باب السوق .. وتبرع رجل متطفل من الحاضرين وقال لرجل الهيئة :


- تأكدوا .. الرجل شكله بريء !! ذهب حمود إلى الهيئة .. وركبت أنا مع المدرس والمرشد حيث كانا ينتظران في الطرف الآخر من الشارع ..


وبعد ساعتين ..


اتصل بي رجل الهيئة وهو يقول :


- الحمد لله .. أبشرك .. الأمور جاءت على ما يرام .. وجدنا الصور .. واعترف بكل شيء .. لقد عثرنا معه على إدانات لقضايا أخرى .. وهو محجوز لدينا الآن بعد أن كتب إقرارا وتعهدا .. يمكنك الآن أن تجد جوالك لدى المرشد الطلابي .. ولكن .. لاتنس أن تحذف الصور منه ..


لم أستطع أن أرد عليه .. تهاويت على الأرض وأنا أبكي ..





وسجدت لله شكرا ..





تمت