·
وصلنا وصلنا بريزرن ( Prizren ) ليلا. كنا مرهقين طوال الطريق فأخذنا مضاجعنا في النزل، وأخلدنا للنوم، لن أنسى تلك اللحظة، عندما استيقظت على صوت الأذان نديا وهو يجلجل في ذلك الوادي، يردده الجبل من هذه الجهة مرة، ومن هذه الجهة أخرى. إنه يؤذن بحروفنا وكلماتنا ولغتنا التي افتقدناها طوال تلك الأيام. في ذلك المكان الذي لاتكاد تسمع في شوارعه، وبيوته، كلمة عربية واحدة. لحظة رهيبة يقشعر لها بدنك، سيعظم إحساسك بها لو عشت منقطعا عن هذا النداء تماما. فقد مكثنا ثلاثة أيام في بريشتينا، عاصمة كوسوفا، لم نسمع فيها تكبيرا ولا حيعلة، لست تسمع ثم سوى صوت القداس يطن صبيحة يوم الأحد من كنيسة أمهم تريزا، وماعدا ذلك الصوت البئيس فإن كل شيء بدا صامتا. لقد أوقف الأذان بعد الحرب، تخيل، يدخل الليل على النهار والنهار على الليل. وتمضي الساعات على الحجر والشجر والنهر والبحيرة، كائنات منطفئة، أشبه بظل الشيء وليست هي الشيء الحي نفسه، حتى تلك الورود الملونة، كأنما كانت في ذاك الفلتر الرمادي.
قرب النهر الذي ظل يهدر في المنحنى. كان القدر يئز فتشم رائحة الرز الذي بدأ ينضج، وتتسلل معه رائحة القهوة. فيما تنضح شنطة الأغراض برائحة الهيل والكمون، كان صديقنا الشيخ الكوسوفي من بريشتينا يرقبنا صامتا، انحدرنا إلى النهر وتوضأنا، ثم صعدنا ورفعنا الأذان وسط تلك الأجمة، ثم أقمنا الصلاة، ثم كبرنا وصلينا الظهر والعصر ثم قعدنا ووضعنا التمر، وقربنا القهوة، وهو يرقبنا صامتا. أكل تمرة وارتشف القهوة من فنجانه، ثم التفت وقال لترجمانه اسألهم: هل هذا التمر من مزارعكم؟ قلنا: نعم، قال: وهذه قهوتكم؟ قلنا: نعم. ثم قال: وهكذا تصنعون في دياركم ورحالكم وأسفاركم؟ ابتسمنا وقلنا: نعم. أطرق ثم نظر إلينا كمن سيلقي بعصارة مااختلج في صدره وقال: أنتم الملوك.
ووفي نامانقا ( Namanga ) حين قطعنا تلك المسافة الطويلة باتجاه الجنوب من نيروبي، حتى بلغنا الحدود الكينية التنزانية، دخلنا البلدة مساء، كان الطريق موحلا، ورأينا في ناصية الطريق كنيسة كاثوليكية عاتية، حيثما توغلنا رأينا أكثر من كنيسة. ينقبض قلبك، وتحل عليك كآبة ما وأنت ترى وجوه أولئك القوم الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة! "وما من إله إلا إله واحد" وفيما انغمست الشمس خلف التلال شيئا فشيئا، ، وهبط الظلام، واجتالت الشياطين، وحل الضيق، سمعنا صوتا عذبا ينساب وسط الظلام. قادما من بين الأشجار، يمر فوق السطوح والقرميد فكأنما كان يمسح على رؤوسها، الله أكبر الله أكبر، صوت رخيم يرفعه رجل من مئذنة تقاوم لتطل برأسها من وراء البيوت والأكواخ والأعشاش، أشهد أن لاإله إلا الله، نغما رخيا بذلك المقام الأفريقي. على طريقة حداء الرعاة، ذاك الذي يعلو ويهبط، أشهد أن محمدا رسول الله، بحروفنا وكلماتنا ولغتنا، ياالله، إنه الإحساس الرهيب. تتصل الأرض بالسماء، ويكبر الشجر والحجر والمدر. انحدرنا جهة الصوت، فتوضأنا وصلينا المغرب والعشاء، وحالما خرجنا كانت المصابيح قد أطفئت، وتوقفت الكهرباء. من وراء ذلك المحيط، وخلف تلك الجبال والغابات والسهول والصحاري الشاسعة المترامية، في تلك البلدة القصية من الجنوب الشرقي للقارة السمراء، عندما كان الظلام دامسا، والأرض مبتلة، وأنت تسمع صرصار الليل، يقطعه خوار ثور، وفيما كنا ننقل حقائبنا من السيارة إلى النزل الذي اكتريناه. برز لنا خلال الظلام رجل أفريقي نحيل الجسد، طويل القامة قليلا، عليه ثوب أبيض، وشماغ أحمر قد ألقى بأطرافه على كتفيه، وله شعيرات ذقن أسود صغير، تماما كهيئة أولئلك الذين تراهم يتأبطون مجلداتهم في أروقة المسجد الحرام. جاء صوته من أقصى الحلق حين سلم علينا بلغة عربية فصيحة. صافحنا، وتحدثنا قليلا، قلنا له: لغتك العربية عميقة. وثقافتك الشرعية ثرية. قال: نعم. إنني يوميا أتابع في المذياع برنامج " نور على الدرب " وأحفظ منه فتاوى الشيخ ابن باز وابن عثيمين "رحمهما الله" اي والله.
وفي كاندي ( Kandy ) في الشرق من كولومبو عاصمة سيريلانكا، هناك حيث تمور الضلالات والديانات والعقائد، وتموج موج الخضم المتلاطم، ترى أولئك الناس الذين خلقهم الله، وأطعمهم وسقاهم، وكساهم وآواهم، ورزقهم من الطيبات، يمضون سحابة يومهم في تقديس الحجر والشجر والبهائم والصلبان. كنت تمر إلى جوار كنيسة مليئة بالصلبان، ثم تمر إلى جوار معبد هندوسي، ثم تمر إلى جوار صنم بوذي، وترى الأصنام معروضة تباع على الرصيف، "واتخذوا من دونه آلهة لايخلقون شيئا وهم يُخلقون، ولايملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولايملكون موتا ولا حياة ولا نشورا" ثم وبعد ذلك البؤس الكالح كله، تلوح لك من بين الأشجار مئذنة مسجد قد شمخت بعنقها إلى السماء، مثل سبابة تشهد بالتوحيد لله رب العالمين، كأنما هي صمام الأمان للأرض التي هي فيها. في الفندق، حين كان الليل هادئا وهو ينحدر نحو الهزيع الأخير، صحوتُ على أصوات همهمة جماعية مختلطة. طقوس بوذية تجيء وتروح، ترتفع وتنخفض، تأتي من هنا مرة ومن هنا مرة، يبدؤون يومهم بالشرك القميء، ويبارزون الله به بكل صفاقة، تحت سمعه وبصره، حتى إذا امتلأ الأفق بالضلال، وزاغت العقول، وقهقه الشيطان، واكفهر الحجر والشجر والنهر والحيوانات. في لحظة انقباض رهيبة، تسمع صياح ديك. ثم تسمع صوتا عذبا يرتفع من بعيد، ينساب خلال نخيل جوز الهند الذي خشع له، يأتي به نسيم عليل، يرفعه سيريلانكي بصوته النحيل، بذلك اللحن الذي يتمايل مثل سنبلة يداعبها الهواء، مرقق اللام والراء، تماما، كما تسمعه في مسجد صغير وسط استراحات نائية، بحروفنا وكلماتنا ولغتنا العربية. بلكنة مكسرة لكنها لذيذة، الله أكبر الله أكبر، يقشعر بدنك وأنت تسمعه يهوي بالتوحيد على ذلك الظلم البشري البشع، أشهد أن لا إله إلا الله، ويضع المخلوقات في مكانها الطبيعي، أشهد أن محمدا رسول الله. لم يكن إيذانا بدخول وقت الصلاة فحسب، بل إنه كان يعيد ترتيب تلك الفوضى العارمة.
أما في كوبليك ( Koplik ) فقد كان الأمر مختلفا. " الآن سيدخل وقت صلاة الظهر، ولا أظن أننا سنجد مسجدا طوال طريقنا عبر مونتينيغرو، وأخشى أن لانصل البوسنة إلا بعد دخول الليل " قالها ترجماننا صديقنا الصربي، ونحن على الحدود مابين ألبانيا والجبل الأسود، في تلك المدينة المتاخمة. نعم الرأي. لم نقطع مسافة طويلة حتى ظهرت لنا منارة مسجد، وفيما كنا نتوضأ أقبل يتهادى من جادة بين الحقول شيخ ألباني معقوف الظهر، توزعت في ذقنه شعرات بيضاء كندف الثلج، يعتمر كوفية بهية، تماما، كأولئك الذين تراهم متشابهين رفقة عجائزهم وهم يطوفون بالكعبة في حملة حج أو عمرة. ابتسم لنا وصافحنا، قلنا له: هل سترفع الأذان؟ قال: نعم، قلنا: رائع، نحب أن نسمع ذلك، قال: من أين أنتم؟ قلنا: من السعودية، انفرج وجهه عن ابتسامة لطيفة، وأعشب بالفرح، وقال مستدركا: أنتم العرب. نريد أن نسمع الأذان منكم أنتم، التقت نظراتنا في حرج. أجبناه: حبا وكرامة، مالم يكن في ذلك بأس، قال وهو يضحك منبسطا: وأين سيكون البأس وقد رفع الأذان رجل من أرض العرب، وبلغة عربية، ابتسمنا في خجل، قلت له: سنرفع الأذان بطريقة أداء الحرم المكي، رفع يديه بتفاعل مسرور، وعلق بكلمات ألبانية كما لو أنه يقول: نور على نور. دلفنا إلى الداخل، وفتح جهاز المايكروفون، وجلس في المحراب منصتا، وجلس معه بعض أشياخ ألبانيين عليهم كوفياتهم، وكان هذا الأذان الذي اقتنصه صديقنا الصربي من خارج المسجد:
وهناك في أقصى الشرق، في طلاس، تحت سلسلة من الجبال الممتدة، وتحديدا وراء نصب لينين وستالين، حين كنا نشارك الأشياخ والأهالي روحانية إفطارهم الجماعي، كان أذان المغرب موغلا في القداسة والمهابة، في حديث كنت قد دونته مفصلا.
لقد طوفت في بلاد كثيرة، حتى لكأنني موكل بفضاء الله أذرعه، مثلما يقول ابن زريق، وتطوافي ذاك منحني كثيرا من ذلك الشعور الذي لايمكن أن تحس به ماكثا في حيك وبين عشيرتك. إن المسجد في تلك الديار البعيدة ليس مسجدا فحسب، إنه قلب ينبض بالحياة، يتجمع فيه المسلمون، ويتصافحون. يتنفسون الأخوة، ويرفعون الأذان، ويستمعون القرآن، ولقد تجد امرأة تقم بعض شعرة في الردهات، وترى الصغار يزيلون الغبار عن المصاحف، رأيت ذلك المنظر البهي بعيني، وعشت إحساسه في بقاع شتى، في مسجد الملك فهد رحمه الله في سراييفو، حيث يضمك فكأنما أخذك أبوك تحت عباءته. ونعمت به ونحن نصلي الجمعة في مسجد المركز الثقافي الإسلامي السعودي في مدريد، وقبلها في مسجد الملحق الثقافي السعودي في نيروبي. إن الصلاة مع أخلاط المسلمين، في تلك المساجد النابضة بالروحانية، لتأخذ بمجامع قلبك، وتمسح عليه بالحنو والعطف. وإذا كنت في ديار قوم يرفعون الصلبان، ويأكلون الخنازير، ولايذكرون اسم الله على مارزقهم من بهيمة الأنعام، فإن الأمر في تلك المساجد يصبح أكثر دفئا وإن صغرت، وقد اضطرتنا الظروف مرة، وانقطعنا لحادث ما، وطال بنا الطريق خارجين من انترلاكن في سويسرا نحو كابرون في النمسا. مالت الشمس، وكنا كلما انعطفنا إلى بلدة لم نجد فيها أي منارة بين تلك الكنائس، ولئن كان في شريعتنا فسحة، وكانت الأرض كلها مسجدا وطهورا، وكان الفضل عظيما للأذان والصلاة في الفلاة، إلا أن تلك البلدان المعقدة لاتنظر للأمر بهذه الصورة، ولم نشأ أن نعمل عملا مخالفا للقانون. طال بنا الأمر، وضاقت صدورنا، فقد اعتدنا في تلك الديار أن نصلي الظهر والعصر جمع تقديم قبل مغادرة الفندق، ولكن الأمر اختلف هذه المرة، وبينما كنا في طريق ريفي، نخرج من بلدة وندخل أخرى، ووسط هذا الركام من الغبش، لمحنا لافتة صغيرة مكتوبة بالخط العربي، على مرمى حجر من الطريق. لم نتبين بادئ الأمر مافيها، توقفنا، وعدنا أدراجنا ونحن نقول: لعله مطعم عربي فنتوضأ عنده ونصلي، وحينما اقتربنا وإذا مكتوب: هنا مسجد. لاإله إلا الله. بقعة من الضوء وسط ذلك الظلام، أو كأنما هو حبل ممدود من السماء إلى الأرض. كانت غرفة صغيرة في مركز إسلامي ناشئ، لم يكن ثم أحد. توضأنا ودلفنا، تهجم على أنفك رائحة الصندل والمسك، على الأرض سجاداتنا التي نعرفها، تتوسطها الكعبة المشرفة والبيت الحرام وقد سحل موضع السجود فيها، ومن فوقها مسبحة ملقاة بحباتها الخشبية، تتدلى في أخرها خيوط خضراء، وكوفية مزركشة أو كوفيتان على الرف، وعباءة للإمام على المشجب. ترفع رأسك لترى فوق ذلك كله آية بخط الثلث تعتلي المحراب، بحروفنا وكلماتنا ولغتنا العربية، تحكي قصة تحنث مريم في المحراب، وأنه " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " ياالله. والله لكأنك لم تقرأ هذا الآية من قبل. لكأنها نزلت الآن. إنها لتنكشف لك جلية في هذا الموضع، مع هذه الزمرة المؤمنة، وسط قوم يزاعمونهم بحب عيسى وأمه، فكأنهم يقولون لهم: مريم لنا، نحن أولى بها وبولدها منكم، نحن نضعهم حيث يريدون هم بأمر ربهم، وأنتم تضعونهم حيث تريدون أنتم فكأنكم تقولون لعيسى: اذهب أنت وربك فشرعا، إنا هاهنا مشرعون! أما نحن فنقول فيهم كما قالوا هم عن أنفسهم " وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. قال سبحانك مايكون لي أن أقول ماليس لي بحق " سقى الله تلك البقعة الطيبة المباركة، ورحم الله تلك الجباه المتطهرة الموحدة، في ذلك الغور الصليبي السحيق. ( وإذ قال الله ياعيسى بن مريم أأنت قلت للناس .. )
إنني ماسمعت الأذان في أرض من تلك الفجاج بلغة عربية فصيحة، ولاصليت في مسجد ثَمّ فقرأ الإمام القرآن بلغة عربية فصيحة، إلا خشعت نفسي، وتذكرت نعمة الله على العرب، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آياته بلسان عربي مبين، وهو بعد للناس كافة، فأعزهم الله به، فكل المآذن، في كل فج ** تحيعل في لغة واحدة. لقد جمع الله للعرب أمهات المكارم، فالكعبة في أرضهم، وأنزل الله القرآن بلغتهم، وبُعث أشرف الأنبياء صلى الله عليه وسلم منهم وفيهم، ثم دفن بين ظهرانيهم، فجمعوا الشرف كله: القرآن، والكعبة، والنبي، ومامن مسجد، في أي صقع من هذه الأرض إلا ويصلي بلغتهم، ويتجه للقبلة في أرضهم. وإني إذ أبعدت التطواف، وجاشت مني الحشاشة، فلأن أصوات بعض المؤذنين بدأت تنحسر، أو صرت تسمع أحدهم يلقي الأذان كمن ينفض الشيء عن كمه! بأداء جاف لا تغنٍ فيه ولاخشوع، في وقت لم يبق لنا من مساجدنا شيء يجمعنا بها غير هذا الأذان، وإطلالات هذه المآذن. والله المستعان.